Site icon IMLebanon

فرنسا: ثقافة وإرهاب

في بلد يحتل فيه «المثقف العام» موقعا مهماً، تؤدي نقاشات الفرنسيين قبيل وبعد جريمة 13 تشرين الثاني (نوفمبر) جزءاً حيوياً من عملية رسم الطريق الذي سيمضي فيه مواطنو ذلك البلد على صعيد اجتماعهم السياسي وعلاقتهم مع الأقلية المسلمة والعالم.

شنت المجموعة التي تبنتها «داعش» هجماتها الدموية قبل أن يخف صخب سجال أثاره اعتداء داعشي سابق في قلب باريس استهدف مجلة «شارلي إيبدو» ومتجراً لمأكولات الكوشير اليهودية. في أجواء الصدمة التي ولّدها اعتداء كانون الثاني (يناير)، جذبت الفكرة التي طرحها ميشال هويلبيك في روايته «استسلام» التي صدرت قبل عملية «شارلي إيبدو» بشهور قليلة عن أسلمة المجتمع الفرنسي أسلمة «ناعمة» تفضي إلى وصول رئيس مسلم إلى قصر الأليزيه، اهتماماً عريضاً لتناولها قضية الإسلام الفرنسي والتعامل معه. النَفَس العنصري الصريح الذي كُتبت الرواية به، ساعد في انتشارها وحصولها على دعاية كبرى إضافة إلى وضعها على طاولة التشريح السياسي، بعد الأدبي، باعتبارها رسالة من أحد ممثلي النخبة الثقافية إلى مواطنيه.

لم تظل تظاهرات 11 كانون الثاني التي شهدتها المدن الفرنسية في منأى عن القراءة السياسية- الاجتماعية. ايمانويل تود، على سبيل المثال، خصص لها كتابه «من هو شارلي»، معتبراً أن التظاهرات رغم إصرارها على حمل القيم الجمهورية، إلا أنها تحت هذه اللافتات عكست إصراراً من منظميها والكثير من المشاركين على الحفاظ على أسس السيطرة السياسية والثقافية والاجتماعية التي سبق أن مهدت الطريق إلى المقتلة.

رغم ذلك، يمكن الجزم أن أصوات اليمين بجناحيه التقليدي والمتطرف كانت أقوى من اعتراضات اليساريين وتحذيراتهم من الانزلاق إلى الفاشية في التعاطي مع المهاجرين والفرنسيين من أصول لا تنتمي إلى «العرق الأبيض» بحسب تعبير نادين مورانو المسؤولة في حزب «الجمهوريين» الذي يمثل الكتلة اليمينية الأكبر في البرلمان الفرنسي.

انبرى عدد من مثقفي اليمين وأهمهم آلان فنكليلكروت للدفاع عن مورانو وحقها في استعارة هذا الوصف الذي قالت ان صاحبه هو الرئيس الأسبق شارل ديغول، مؤسس الجمهورية الخامسة وورد في مذكرات واحد من وزرائه.

فنكليلكروت وهو الآن الممثل الأهم لمجموعة «الفلاسفة الجدد» الذين ظهروا بعد أحداث 1968، والذين يسميهم خصومهم «الرجعيين الجدد»، كان غزيراً في التعليق والكتابة حول جريمة الأخوان كواشي ضد «شارلي» وجمع تعليقاته الإذاعية وغيرها (من مواقفه منذ 2012) في كتاب حمل عنوان «الصواب الوحيد» وصدر في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

كرست مقالات الكتاب انزياح فنكليلكروت الحاد صوب اليمين المتطرف المعادي للأجانب الذين «لا نعرف ماذا يريدون» والذين «يتمتعون بتمييز إيجابي لمصلحتهم»، لكنهم يرفضون التعبير عن تضامنهم مع ضحايا «شارلي إبدو» والذين تصدر عنهم كل آفات المجتمع الفرنسي من مخدرات وبطالة وانتشار الجريمة ويصل إلى التعبير عن أسفه من ضياع مقاربة عالم الانثروبولوجيا كلود ليفي- ستروس أمام المقاربة التي أسسها عالم الاجتماع اليساري بيار بورديو. أو بحسب كلماته غياب فكرة تمحور المجتمع حول الثقافة مقابل الصراع بين المسيطرين والمسيطر عليهم. هذا الابتسار لمقولات ليفي- ستروس، كان في صلب الرد العنيف الذي حمله عرض اود لونسيلان لكتاب فنكليلكروت في مجلة «نوفيل ابسيرفاتور». المجلة ذاتها نشرت قبل يوم واحد من هجمات باريس الأخيرة رسالة مفتوحة من الكاتب آلان باديو حذر فيها فنكليلكروت من الانحدار الى قيعان اليمين المتطرف وتوفيره التسويغ الذي يحتاجه العنصريون للانقضاض على المجتمع التعددي.

يبدو النقاش السابق على جريمة 13 تشرين الأول، استمراراً لنقاشات قديمة تتعلق بالمفاهيم الاجتماعية التقليدية. مقاربة أكثر جدة بدأها باحثون شبان يهتمون بأثر ألعاب الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي والمعازل بمعناها الثقافي على أجيال من الشبان من أبناء المهاجرين الذين انفصلوا عن الواقع ولا يربطهم بالمجتمعات المحيطة بهم إلا شعور باللامبالاة والكراهية. من هنا يمكن فهم وصف «المنهجي» الذي تكرر كثيراً في كلمات الناجين من الجريمة عند حديثهم عن كيفية قتل المهاجمين ضحاياهم.