نتائج الانتخابات الفرنسية في الدورة الثانية حملت مفاجأة أكبر من الدورة الأولى حين حقق اليمين المتطرّف أكبر عدد من النواب وهذه كانت للمرّة الأولى منذ زمن… وهذا ما دفع الكثيرين حتى أقرب المقرّبين الى الرئيس إيمانويل ماكرون يتساءلون: لماذا اتخذ ماكرون قرار حلّ المجلس؟
ولكن، بعدما استطاع الرئيس ماكرون أن يجمع اليسار ويحقق نجاحاً كبيراً ضد اليمين المتطرّف، أصبح ماكرون لاعباً أساسياً في الانتخابات، وهذا ما فاجأ الجميع..
على كل حال، سقوط اليمين قد يكون في مصلحة فرنسا العليا، ولكن علينا أن ننتظر تشكيل حكومة، وكيف ستكون الحكومة؟ وما هو شكلها، وكيف ستحكم؟
تشير التقديرات الأولية لنتائج التصويت في الانتخابات التشريعية في فرنسا، إلى عدم تحقيق أي كتلة غالبية مطلقة في الجمعية الوطنية.
ويقول خبراء إنه لا يوجد حزب لديه ما يكفي من المقاعد للحكم، مما يعني أنّ سيناريو “البرلمان المعلّق” يلوح في الأفق. ويُنفّذ سيناريو “البرلمان المعلّق” عندما لا يحقق أي من الأحزاب السياسية والتحالفات الحزبية أغلبية مطلقة في مقاعد البرلمان. إذ يتعيّـن الحصول على 289 مقعداً لتحقيق الأغلبية المطلقة.
إئتلاف الجبهة الشعبية الجديدة الذي حصل على أكبر عدد من مقاعد البرلمان، ليس قادراً على تشكيل حكومة وضمان الثقة لها. وكانت المفاجأة الكبرى، تراجع اليمين المتطرّف الذي تصدّر الدورة الأولى من الانتخابات الى المركز الثالث.
وفي ظلّ مجريات الأمور التي أشرت إليها، بتحقيق انتصار مفاجئ لتحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري، وفي ظلّ عدم حصول أي معسكر على أغلبية مطلقة تسمح له بتشكيل الحكومة الجديدة، تضع نتائج الانتخابات التشريعية في فرنسا على الأرجح، فرنسا أمام احتمالات عدّة أهمها:
أولاً: تشكيل تحالف يميل نحو اليسار:
ليس من المعتاد في فرنسا بناء مثل هذا النوع من التحالفات في مرحلة ما بعد الانتخابات، حيث انه أمر شائع في الديموقراطيات البرلمانية بشمال أوروبا مثل ألمانيا وهولندا.
إشارة الى ان جاك لوك ميلينشون زعيم حزب “فرنسا الأبية” اليساري الراديكالي وهو الحزب الأكبر في تحالف الجبهة الشعبية الجديدة، استبعد أي تعاون من هذا النوع.
ثانياً: عدم حدوث أي اتفاق
هنا ستكون فرنسا أمام مصير سياسي مجهول، إذ ينص الدستور على ان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لا يمكنه الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية جديدة قبل سنة (12 شهراً).
كما ينص الدستور على ان ماكرون هو الذي يختار من سيقوم بتشكيل الحكومة، لكن من سيختاره سيواجه تصويتاً بالثقة في الجمعية الوطنية التي ستنعقد لمدة 15 يوماً في 18 تموز (يوليو) الجاري.
ثالثاً: شخص مقبول لدى الأغلبية أو حكومة تكنوقراط
وهذا يعني ان ماكرون يحتاج الى تسمية شخص مقبول لدى الأغلبية، ومن المرجّح أن يأمل ماكرون في إخراج الاشتراكيين والخضر من التحالف اليساري، ما يترك حزب “فرنسا الأبية” بزعامة جان لوك ميلينشون وحيداً. وهنا يعمد ماكرون الى تشكيل ائتلاف يسار وسط مع كتلته.
رابعاً: حكومة تكنوقراط
فإذا فشلت كل المحاولات السابقة قد تُشكّل في فرنسا حكومة تكنوقراط تدير الشؤون اليومية، لكنها لا تشرف على التغييرات الهيكلية. علماً بأنّ ماكرون طلب من رئيس وزرائه الحالي غابرييل اتال البقاء في منصبه ورفض استقالته.
إنّ حلّ البرلمان الذي نفّذه ماكرون، وإجراء انتخابات تشريعية جديدة أوقع الرئيس الفرنسي في فخ “يا دارة دوري فينا”. فهو الآن يفتش ليجد حلاً يخرجه من الأزمة التي أوقع نفسه فيها… وهو ملزم بإيجاد هذا الحل.
فأن يختار ماكرون رئيس وزراء من “طينة” أخرى، وعجينة مناوئة، يجبره على التعايش معه، وإعطائه الجزء الأكبر من صلاحياته، هو أمر في غاية الصعوبة.
إشارة الى أنه ومنذ رحيل الجنرال شارل ديغول من السلطة عام 1969، حدث استثناء التعايش 3 مرات في ظلّ الجمهورية الخامسة، أي عندما لا يكون رئيس الدولة ورئيس وزرائه على الجانب السياسي نفسه. المرّة الأولى حين اختار الرئيس فرنسوا ميتران جاك شيراك رئيساً للوزراء عام 1986، والثانية حين اختار ميتران ادوارد بالادور عام 1993 رئيساً للحكومة، والثالثة حين اختار جاك شيراك ليونيل جوسبار عام 1997.
ويحدث ذلك عقب هزيمة المعسكر الرئاسي في الانتخابات التشريعية، ويتمتع النواب المنتخبون عن الحزب المعارض بأغلبية في الجمعية الوطنية. وينشأ عن هذا الوضع خياران أمام الرئيس:
الخيار الأول: الاستقالة.
الخيار الثاني: اختيار رئيس الحكومة من بين الأغلبية الجديدة.
هذا، وبالتزامن مع هذا التخبّط يلوح احتمال ثالث في الأفق، هو احتمال صعب… هذا الاحتمال غير المستبعد أن يلجأ الرئيس ماكرون الى حلّ جديد للبرلمان في حال تعطيل الحياة السياسية وتأزّم الموقف.
ولكن هناك أمرٌ يجب معرفته، ان الأمر المؤكد هو أن الرئيس لا يستطيع حلّ البرلمان مرّة أخرى قبل مرور عام كامل… هنا قد يكون ماكرون مضطراً الى تنفيذ هذا الأمر إذا تجمّد الحكم في فرنسا.
إلى ذلك، قد يكون هناك خيار ثالث أيضاً هو إذا تولّت الجبهة الشعبية الجديدة الحكم، ولكن في غضون عام واحد، وفي مواجهة صعوبات الحكم تنهار سمعتها وتسقط “في أعين الفرنسيين” فتتنحى وتنقسم على نفسها وتغادر الساحة.
أعتقد ان ماكرون “أحرق نفسه” بحل البرلمان… لذا فإنه سيفكّر ألف مرّة قبل اللجوء مرّة أخرى لحل البرلمان للمرّة الثانية ولو بعد عام.
وفقاً للمادة الـ12 من الدستور، فإنه يمكن لرئيس الجمهورية، بعد التشاور مع رئيس مجلس الوزراء، إصـدار قرار حـلّ الجمعية الوطنية، وتُـجرى الانتخابات العـامة بعد 20 يوماً على الأقل و40 يوماً كحدّ أقصى من تاريخ الحل، ولا يمكن تنفيذ حلّ جديد في العام التالي لهذه الانتخابات.
أما كيف يتم التعايش بين رئيس الجمهورية ورئيس حكومته، إذا كانا من فريقين سياسيين مختلفين -كما هو الحال الآن-؟ فإنّ كل شيء في الدولة يدور حول رئيس الجمهورية الذي يملك فعالية السلطة في الحالات العادية، لكن في حال التعايش يكون مركز ثقل السلطة هو رئيس الوزراء، وبالتالي يتمّ تقليص دور الرئيس الى دور رمزي وشرفي.
أما في ما يتعلّق بالملفات الخارجية والدفاع، فيمكن لرئيس الجمهورية التفاوض بشأن المعاهدات والتصديق عليها، ولديه حقّ النقض على تعيينات وزير الخارجية ووزير القوات المسلحة وفقاً للمادة الـ52 من الدستور.
إشارة الى ان احتفاظ رئيس الجمهورية بوظائفه في السياسة الخارجية، ومجال الدفاع، مرهون ببعض التغييرات… فمثلاً، لا يمكن لماكرون تمرير تسليم الاسلحة الى أوكرانيا بقرار فردي، لأن ذلك يقرّره البرلمان وتقترحه الحكومة. ما يعني أنه لن تكون للرئيس مطلق الحرية حتى في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية.