يحصل، أحياناً، أن حدثاً واحداً يفتح الباب عريضاً أمام تحوّلات كبرى. هكذا، فجأة، يستشعر الإنسان بغريزته أن هناك شيئاً تبدّل، فيبدأ بدرس أموره وحساباته على قاعدة جديدة. وهي حال كثيرين في المنطقة بعد التفاهمات التي بدأت تنعكس سياسات ونتائج بين محورين تقود السعودية أحدهما في مواجهة الآخر بقيادة إيران.
من تابعوا تحضيرات القمة العربية، أو لاحقوا تفاصيل المحادثات السعودية – الإيرانية بعد اتفاق بكين، يلمسون أن لبنان لم يكن بنداً رئيسياً. بل هو، مع الأسف، بند تابع، وإن كانت فيه ملفات أساسية. فالخارج يهتم لأمر لبنان باعتباره ساحة تعكس جوانب من الصراع القائم، ويركّز الغرب وإسرائيل ومعهم عرب أميركا على عنوان المقاومة فيه. وقد دلّت تجربة العقدين الأخيرين أن ما بناه خصوم المقاومة في الخارج من علاقات مع جهات لبنانية، بقي في إطار الرهان على هذه الجهات في المعركة ضد المقاومة.
في لبنان، اليوم، من يتصرف باستعجال كبير إزاء ما تقوم به السعودية في المنطقة. لكن فيه، أيضاً، من يقرأ الأمر بهدوء وروية، انطلاقاً من كون المعركة مستمرة. فالأهداف ثابتة، لكن تبدلاً حقيقياً طرأ على أساليب المعركة وأدواتها. والقوى التي هُزم مشروعها في سوريا ولبنان والعراق باتت مضطرة لإعادة النظر في أدوات العمل، من دون وجود مؤشر على أنها قرّرت مراجعة موقفها من الموضوع الأصلي، المتعلق بالمعركة المستمرة ضد الهيمنة الأميركية والغربية، ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وبقية الأراضي المحتلة.
وفق هذه القاعدة، ستبقى العين على سوريا، كما كانت عليها خلال مرحلة ما بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ولا يمكن لأحد تجاهل أن الاحتلال العسكري الأميركي لا يزال جاثماً على بعض المناطق السورية، وأن قوات الاحتلال الأميركي لا تدير جماعات سورية انفصالية فحسب، بل عملية تدمير ممنهج لبقايا الدولة السورية في مناطق نفوذ هذه الجماعات، وتشرف على سرقة الموارد النفطية للشعب السوري. والأمر نفسه ينطبق على الاحتلال الأميركي في العراق، والعمل المستمر لتعزيز حضور الولايات المتحدة في الأردن، وتوسيع دائرة المطبّعين مع العدو في عالمنا العربي.
عملياً، لا نزال في قلب المعركة. وحضور لبنان الهزيل في القمة العربية لا علاقة له بالوضع الرسمي والشغور الرئاسي وتفكّك الحكومة وغياب السياسة الخارجية الواضحة. بل لأنه ليس في لبنان، اليوم، ولو تفاهم الحد الأدنى على استراتيجية للتعامل مع التحولات الجارية من حولنا، فيما يعجّ البلد بقطّاع الطرق الذين استبدلوا مؤسسات الدولة كمركز للنهب، بموارد الناس، والميسورين منهم على وجه الخصوص.
وسط هذه الأجواء، تبدأ باريس المرحلة الثالثة من حملتها الخاصة بالانتخابات الرئاسية في لبنان. وبعدما اقتنعت بأن لا مجال لانتخابات من دون تسوية كالتي عرضها عليها حزب الله، لجهة المقايضة بين رئاستي الجمهورية والحكومة، ونجحت في تحييد نسبي للسعودية عن المعركة القائمة من دون ضمانات بعدم تعطيل برنامج التسوية، تنطلق إلى المرحلة الثالثة التي تستهدف أمرين:
الأول، حوار تقوده فرنسا مباشرة مع قوى ومرجعيات مسيحية ومؤثرة، لعدم ثقتها بجدية مساعي خصوم فرنجية للاتفاق على مرشح، وربما استباق هذه المحاولات. فبعد دعوة باريس رئيس حزب الكتائب سامي الجميل، جرت مساع لتوجيه دعوة مماثلة إلى رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي اعتذر عن عدم تلبيتها لإدراكه أن جدول الأعمال غير مناسب له. وتتابع باريس البحث مع بقية القيادات، خصوصاً مع البطريرك الماروني بشارة الراعي ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، في مسعى لإقناع الأول بمباركة وصول فرنجية إلى الرئاسة وحث النواب على التوجه إلى الانتخابات، ومحاولة إقناع الثاني بالسير بالتسوية والتصويت لفرنجية، أو بعدم تعطيل النصاب مع التصويت بورقة بيضاء.
الثاني، بذل مساعٍ مع السعودية نفسها، وأطراف عربية أخرى مثل قطر، لضمان عدم «المشاغبة» على جهود باريس. ويأمل الفرنسيون بتطور الموقف السعودي من مرحلة «الحياد السلبي» إلى «الحياد الإيجابي»، ما يفتح الأبواب أمام رئيس الحزب التقدمي وليد جنبلاط لاختراع صيغة تمنح فرنجية بعض أصوات كتلته، كما فعل والده كمال جنبلاط عام 1970 عندما قسّم كتلة جبهة النضال إلى قسمين، فصوت وزراء الحزب الاشتراكي لمصلحة سليمان فرنجية الجد، ومنح الآخرون أصواتهم لالياس سركيس. كما تأمل فرنسا بأن يساعد «الحياد الإيجابي» السعودي على حسم كتلة المترددين من النواب السنة والمستقلين و«التغييريين» لموقفهم والسير بفرنجية.
مع ذلك، يوجد من يستغرب كيف تقود فرنسا معركة إيصال حليف حزب الله وبشار الأسد إلى رئاسة الجمهورية، وهو أمر يناقض استراتيجيتها المناهضة للمقاومة وحملتها البربرية على النظام في سوريا، إذ كانت طرفاً فاعلاً، سياسياً وعسكرياً وأمنياً وإعلامياً، في الحرب التي شنّتها مجموعات مسلحة ضد النظام في سوريا. لكن واقع الحال، يشير إلى أن الفرنسيين يسعون إلى الفوز بحصّة من التسويات الكبيرة في المنطقة. وهم غير قادرين على البناء على القوى المعارضة لسوريا والمقاومة للحصول على مرادهم، لا سيما أن علاقاتهم العربية ليست في حال جيدة. فالسعودية لا تنظر باحترام إلى القيادة الفرنسية، ولا تجد في فرنسا كلها مركز قوة اليوم، وهي حال دول كثيرة في العالم العربي لم تعد ترى في فرنسا سوى التاجر الذي يسيل لعابه كلما شاهد فرصة للاستثمار.
مرة جديدة، يبدو لبنان أمام مفترق طرق. يمكن لجميع اللاعبين فيه التصرف بواقعية لا تفرض التخلي عن المبادئ، لكنها تتيح التعايش مع التطورات القائمة، لأن البديل، هو إما انكفاء يميت أصحابه مع الوقت، أو هجوم انتحاري يودي بأصحابه إلى التهلكة!