يعتقد كثيرون أن فرنسا قد تكون تورّطت في إعلانها تعيين موفد رئاسي جديد قبل جلسة 14 حزيران الماضي، بعدما ثبّتت زيارته للبنان الانقسام السياسي الحاد الذي يشكل جوهر الأوراق التي يحملها إلى رئيسه إيمانويل ماكرون. وهو إذ وعد بعودة غير بعيدة، إلا أن أحداً لا يمكنه الجزم، من الآن، ما إذا كان سيحمل مزيداً من الأسئلة، أو مبادرة عملية قابلة للعيش.
زيارة لو دريان كشفت ليس فقط عن تعمّق الهوّة بين الفرقاء اللبنانيين، بل عن عجز القوى الخارجية في إحداث خرق نوعي في حال استمرار لبنان عنواناً ثانوياً في اهتماماتها. لكن الأهم هو أن أيّ ضغط من الخارج نحو اتفاق ما، لن يلغي الآثار الخطيرة للمعركة الرئاسية على الواقع اللبناني. ربما يكون الاستنتاج مستعجلاً بعض الشيء، لكن معرفة أحوال الجماعات اللبنانية تكفي لتوقّع ما هو أسوأ بالنسبة إلى بقيّة العشرية الثالثة من هذا القرن.
لا حاجة إلى قراءة أوراق لو دريان لمعرفة حقيقة ما تحتويه. فيها الكثير من الكلام المنقول عن لسان هذا أو ذاك من الفاعلين في لبنان، لكن العناوين الرئيسية تركز على أن اللبنانيين ليسوا في مرحلة تقديم التنازلات من أجل تسوية وطنية يدعمها الخارج ويساعد في تنفيذها وتأمين متطلباتها على صعيد رفع الحصار المفروض على لبنان. وعندما كان لو دريان يكرر أمام من التقاهم أن المشكلة لبنانية في الأصل، لم يكن يكتشف البارود، لكن مجرد إصراره على قول ذلك يعكس الصعوبات التي تمنع الخارج من إقناع الجميع بتسوية واحدة. ولعل أهم ما خرج به لو دريان هو أن لا مكان، بعد الآن، لتمرير كذبة اللبنانيين بحل وفق قاعدة لا غالب ولا مغلوب.
في جدول لقاءات المسؤول الفرنسي، كان هناك ما هو مفصلي. وليس في التوصيف انتقاص من قيمة أحد. لكن لو دريان وجد نفسه أمام مرحلتين، يفصل بينهما اجتماعه الطويل مع حزب الله، ما يجعل محضر هذا الاجتماع يحتل القسم الأكبر من أوراقه. وهذا ليس لأن الحزب يمثل نقطة مركزية في أي مشروع تسوية داخلية فحسب، بل لأن لو دريان، العارف بمواقف الجميع من تسوية فرنجية – سلام، سمع من الحزب مطالعة شاملة، بدأت بعنوان الاستمرار في دعم ترشيح سليمان فرنجية، وخلصت إلى أن الحزب لا يملك خطة بديلة. وما بين تثبيت الموقف والجزم بعدم وجود بديل، كان هناك كثير مما قاله الوفد، من تشخيصه لطبيعة جلسة 14 حزيران، وقراءته لنتائج التصويت فيها، وتقديره لمواقف القوى المتحالفة ضد فرنجية وكيف ستتصرف في المرحلة المقبلة، مع شروحات حول أسباب دعم فرنجية، وعرض شمل تصوراً يتجاوز ملف الرئاسة، وتقديم المشهد اللبناني وفق صياغة تتماشى مع واقع المنطقة والحلول الكبيرة.
المدققون في لقاءات لو دريان لمسوا تبدّلاً في لهجته بعد هذا اللقاء. فهو، قبل الاجتماع بوفد الحزب، استفاض في عرض الصعوبات التي تعيق توصّل اللبنانيين الى حل سريع، وكانت لديه قراءة لجلسة 14 حزيران مفادها أن نتائج التصويت قضت على مشروع تسوية فرنجية – سلام، ما جعله يسأل عن الخيارات البديلة، كما فعل في مستهلّ الاجتماع مع وفد حزب الله. صحيح أنه صاغ السؤال بطريقة لطيفة وناعمة، لكن جوهر موقفه كان: هل من خطة بديلة؟
في الجزء الثاني من لقاءاته، خرج المجتمعون ليتحدثوا عن غموض يكتنف موقف فرنسا من التسوية. أجمع هؤلاء على أن لدى الفرنسيين جديداً، لكنهم لم يعلنوا خروجهم من مبادرة التسوية. وبعد لقاءات غير معلنة أجراها الموفد الفرنسي، لم تتجاوز جوجلة للآراء مع جهات معنية بالملف الرئاسي، خرج آخر من اجتمع معه بأن لو دريان سيغادر لبنان محبطاً نتيجة الأسباب العميقة للأزمة. حتى إن البعض ذهب الى أن الرجل لم يقدر على إخفاء غضبه من تحميل بلاده مسؤولية المبادرة، وألقى عبارات مختصرة أمام منتقدي حكومته، أوضح فيها أن فرنسا تتعامل مع الواقع اليوم، وليس مع التاريخ الذي مضى. وبعد انتهاء الزيارة، قال آخر المجتمعين به إن فرنسا ستعطي مبادرتها فرصة أخيرة، وستعود الى بحث معمّق مع السعودية والولايات المتحدة في إمكانية إحداث خروقات لبنانية نوعية. ونقل عنه قوله لأحد زواره إن الرئيس نبيه بري أخطأ في قراءة وليد جنبلاط هذه المرة، وإن الأخير يبحث عن ضمانات تكاد تشبه ضمانات حزب الله. كذلك نُقل عنه أن المسيحيين لا يتعاملون بواقعية مع التغييرات الكبيرة التي عصفت ببلادهم. ولاحظ أن حزب الله غير مقدّر تماماً لأزمة الثقة بينه وبين قوى كثيرة في البلاد.
على أن أخطر ما خرج به الموفد الرئاسي الفرنسي كان في أنه لم يعثر في لبنان على مرجعية قادرة على إدارة حوار لبناني – لبناني. فرئيس المجلس قال له إنه صار طرفاً في المعركة، وهو محبط بعد رفض الآخرين لحوار في ضيافته. والبطريرك الماروني بشارة الراعي تعرّف عن كثب على الانقسامات التي حالت دون إدارته حواراً بين المسيحيين أنفسهم، فكيف عليه أن يدير حواراً وطنياً. ولمس لو دريان أنه في غياب الشخصيات الوطنية الكبيرة، وفراغ المؤسسات الدستورية، ليس هناك سوى «خارج ما» قادر على جمع هؤلاء حول طاولة حوار، لكن الأمر يحتاج الى تحديد دقيق لجدول أعمالها للتوصل إلى نتيجة، ذلك أن أحداً لا يحتاج الى مزيد من الابتسامات الصفراء.
على الطريقة اللبنانية، يمكن كتابة عشرات القصص عن زيارة الموفد الفرنسي، وعلى الطريقة اللبنانية نفسها، سيعتمد كثيرون خططاً ويتبنّون مواقف تقوم على قراءتهم، هم، لنتائج لقاءاتهم مع الموفد الفرنسي. فيما ستجد باريس نفسها مضطرة إلى أيام للتوضيح بأن ما ينسب إليها غير دقيق، أو غير صحيح. ولن يُحسم الجدل إلا متى أعلنت فرنسا موقفاً واضحاً. وفي انتظار عودة الرجل مرة جديدة، فإن الجميع ينتظر منه كلاماً لا أسئلة. وهو ما يدفعه الى التفكير منذ الآن بأن عليه مسؤولية غير عادية إزاء كل كلمة سيقولها من الآن فصاعداً، وخصوصاً أن شركاء فرنسا في الملف اللبناني يظهرون استعداداً للانقضاض على المبادرة الرئيسية، وهم متوثّبون لإشهار معركتهم لإيصال قائد الجيش إلى بعبدا.