أما وقد انصبّت بلاوي الزمن دفعة واحدة على بلدنا التي سبق أن نجح حتى تاريخ مصرع الرئيس الشهيد رفيق الحريري في لملمة أوضاعه التي سبق أن التهبت في جملة من الحروب الأهلية، ووصلت إلى حدود التدهور الخطير، لولا توفر عاملين أساسيين: أولهما تسلّم مقاليد البلاد من قبل قيادة رشيدة طائلة وقادرة وذات علاقات عميقة الجذور مع المجتمع الدولي وفي طليعته الولايات المتحدة وفرنسا، وصولا إلى المجتمع العربي وبالتحديد الخليجي، الذي تشكلت منه رافعة إقتصادية، هبّت إلى نجدته في أيام الكوارث والشدائد، وكانت المدخل الذي لا بد منه، لتجاوز كل المطبات التي انبثقت في أكثر من مناسبة، أمام كيان لبناني مبعثر ما بين الطوائف والمذاهب والإتجاهات السياسية المتناقضة، وصولا إلى التطورات التي ألحقتها القيادات المشبوهة بلبنان وبكثير من بلدان المنطقة، معتمدة على الضّخ الطائفي والمذهبي، ووصلت في ذلك إلى الحدود التي جاءت تفاصيلها في نطاق المحاكمة الدولية التي نظرت في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والتي صدر فيها حكم غيابي بحق أحد مسؤولي الدويلة التي قدر لها أن تمسك بخناق هذا البلد المنكوب، وأن تفعّل سلطتها وتسلطها وارتباطاتها المتجذرة بإيران وصولا في ذلك إلى إعلانٍ على الملأ الدولي والإقليمي بأن الحزب يستقي تعليماته وتمويلاته المختلفة من إيران وسلطاتها الثورية المتخاصمة مع معظم الجهات والفئات والسلطات المختلفة في العالم، وقد واكبها في مسيرتها هذه ستار واقٍ متمثل بغطاء مسيحي منحها إياه التيار الوطني الحر، إنطلاقا من موقع كنيسة مار مخايل، ولنا في ما قاله رئيس القوات اللبنانية عنه بهذا الصدد، خير تفصيل وخير دليل.
وعليه، وبعد أن تدهورت أحوالنا «بفضل» من بيدهم الأمور كلها إلى حدٍّ دخلت فيه البلاد إلى مهاوي الإفلاس ودخلت فيه جموع الشعب بأغلبيته الساحقة في غياهب البطالة والجوع. وبعد أن دخل لبنان، «كما العالم أجمع»، في نطاق المعاناة من جائحة الكورونا التي أسهمت في تعطيل الوضع الإقتصادي وانتاجه المادي والمعنوي في كل الميادين العامة والخاصة، جاءتنا تلك الكارثة الموصوفة التي دمّرت أجزاء واسعة من العاصمة بيروت وجعلتها أثرا بعد عين، مخلّفة فيها ما ينهاهز المائتي ضحية وألوف الجرحى، وخرابا ودمارا طاول البيوت والمؤسسات التجارية والسياحية ومعالم أثرية أصابها الخراب والدمار بما لا يمكن أن يعوّض أو يرمّم بما يعيد بيروت إلى قمة تفوقها ولؤلؤيتها وإطلالاتها الحضارية المتميزة على العالم بأسره، وكانت هذه المصيبة كافية لأن تعيد الإهتمام الدولي بالمأساة اللبنانية المتعاظمة، وهكذا أطلّت فرنسا على لبنان، تلك الإطلالة المستعجلة والحافلة والرغبة الصادقة في إنقاذ هذا البلد من عثراته التي تسبب بها مسؤولوه من كبارهم إلى صغارهم، في خبايا وزوايا هذه الدولة – القرصان وخصوصا في المرفأ، حيث أن الناس لم يقبضوا حتى الآن فكرة الإهمال والتراخي التي روّج لها البعض حماية لأنفسهم ولمصالحهم ولأوضاعهم التي لم تترك في هذه البلاد قرشا إلاّ واستولت عليه وضمته إلى حساباتها في الخارج، مخلفة هذا البلد المنكوب في بحيرات من الأوجاع والآلام، ومن شظف الحياة والعيش الكريم الذي اعتاد عليه أهل هذه البلاد، حتى في أسوأ أيامهم وأحوالهم، وجاء من يسوّق لفكرة «الإهمال»، بأنها هي المتسبب بالكارثة التي أطبقت على مدينة كبرى كبيروت فحولتها إلى دمار وخراب ومنابع موت ومآسٍ وطنية وإجتماعية واسعة المدى وعميقة الجذور، وسلاحهم في ذلك أن الدولة بهذا المنحى إنما تسعى إلى أن تدفع بشركات إعادة التأمين في العالم إلى الدفع والقيام بما يفرضه عليها الواجب التعاقدي، أما التحقيق في إطار يذهب إلى حدود أبعد وأخطر وأشمل من «الخطأ» والإهمال، فهو أمر شبه ممنوع ومرفوض ويتم سعي حثيث إلى تحويره بما ينفي الجرم عن جهات معينة، وبما يدفع به وبمسؤولياته إلى صفوف صغار الموظفين وأولئك منهم الذين امتلأت جيوبهم بالمال الحرام الذي ما فتيء أن أضحى ملطخا بالدماء وبالخراب والدمار الذي طاول العاصمة ومن خلالها لبنان بأسره.
الرئيس ماكرون، جاء بمبادرته الشجاعة والمؤثرة، ليضع الأمور المتدهورة في نصابها الواقعي، خاصة بعد مأساة الرابع من آب.
ظاهر الأمر أن كل الفئات والجهات رأت في مبادرته هذه خشبة خلاص لوطن يغرق في أوحال الخراب والزوال، ولكنّ صاحبي الرؤوس «المتنحرة»، يسعون لتحوير المبادرة الفرنسية الإنقاذية إلى فرصة لقلب الطاولات لمصلحتهم وتحويرها من حساب انقاذ البلد من مصيره إلى إنقاذ من أمسكوا بمفاتيح السلطة، كبيرهم والصغير. كل الصفات التي اعتدنا عليها منهم جميعا أخذت منذ الآن تطل برؤوسها الملوثة وأياديها المتشبثة بالمغانم والمكاسب.
آملين أن تكون المبادرة الفرنسية وما يحيط بها من دعم دولي وعصا أميركية محفّزة، كافية في صمودها لتجاوز كل محاولات الكبار والصغار الآثمة، من مسؤولي هذا الزمان الغاشم، ولنا في العقوبات الأميركية المفروضة على وزيرين مهمين، أوضح مقياس للآتي الأعظم.