Site icon IMLebanon

فرنسا لم تعد فرنسا

 

فرنسا لم تعد فرنسا. فرنسا إيمانويل ماكرون باتت بلداً هجيناً، متعباً، خائفاً، متشنجاً، تابعاً، متقوقعاً، مذعوراً، شعبويّاً، طهرانياً، كارهاً للسياسة، متنكراً لتاريخه وقيمه، مشككاً في قوّته، في كونه دولة عظمى، في كونه قادراً على أن يحمل مشعل الفكر الانسانوي الذي طبع الحضارة الانسانيّة، وميّزه طويلاً عن أمم الأرض جمعاء… مع ماكرون تقترب الديمقراطية الفرنسية يوماً بعد آخر من الأنظمة الاستبدادية!

مقالات مرتبطة

رفع رسوم الدراسة في فرنسا: الحكومة غائبة عن السمع إيلده الغصين

فرنسا لم تعد فرنسا. بالنسبة إلينا خصوصاً، نحن العرب، ونحن اللبنانيين. في زمن الرئيس فرنسوا ميتران، كان النقاش الدائر هو حول منح المقيمين الأجانب حق الاقتراع في الانتخابات البلدية والمحلية كونها تخصّهم، وتطاول حياتهم اليوميّة مثلهم مثل الفرنسيين. في زمن إيمانويل ماكرون ـــ والرجل في المصاف الأخير صنيعة العقد الفاوستي الذي أقامه ميتران منذ ثمانينيات القرن الماضي مع النهج الاصلاحي، السيوسيو ديمقراطي ـــ لم يعد بوسع الطلاب الأجانب أن يستفيدوا من مجانية التعليم في الجامعات الفرنسية. حسب قانون يدخل الآن حيّز التنفيذ، فإنه، بدءاً من العام الدراسي 1919 ـــ 1920، سيكون على جميع الطلاب «غير الأوروبيين» (مع بعض الاستثناءات المرتبطة باتفاقات ثنائية، أو بحالات خاصة، كطالبي اللجوء والفائزين بمنح من الحكومة الفرنسيّة…)، أن يدفعوا جزءاً يوازي ثلث كلفة دراستهم : 2770 يورو في مرحلة الليسانس بدلاً من 170 كانت بمثابة نفقات تسجيل، و3770 في مرحلة الماجستير أو الدكتوراه، بدلاً من 243 أو 380 يورو.

نفكّر في أجيال من الطلاب اللبنانيين والعرب من أبناء الطبقات الوسطى الذين درسوا في جامعات فرنسا بين السبعينيات والتسعينيات، وقد باتوا اليوم من النخب الاكاديمية والسياسية والاقتصاديّة في بلادهم، يحملون «التراث الفكري والثقافة الفرنسية»، وكثيرون منهم باتوا مواطنين فرنسيين… هؤلاء جميعاً، باستثناء أبناء الذوات وبناتهم، ما كانوا حيث هم اليوم لو أن «الاصلاحات» الماكرونية كانت مطبقة في أيامهم. طبعاً سيأتي من يقارن مع كلفة التعليم في دول غربية أخرى، أو مع الاقساط الباهظة في جامعاتنا الخاصة… أو من يقول: الجماعة أحرار في بلدهم. لكن دعونا لا ننسى، أننا، بسبب سياساتهم المتعاقبة، لسنا أحراراً في بلداننا. ولا نملك جامعات وطنيّة قوية وأنظمة تعليم متقدمة في بلداننا. ثم اننا نتحدّث عن فرنسا معقل التنوير، كحالة خاصة انتهت، كاستثناء ثقافي في طريقه الى الانقراض. سيجد طلابنا سبلاً أكاديميّة أخرى، في بلدان أخرى، أو سيبقون في بلدهم حيث يتهاوى مستوى التعليم الجامعي، ويصبح تجارة سافرة مع غش في البضاعة معظم الأحيان… ما يعد بمستقبل قاتم لن يبقى حكراً على الضفة الجنوبية للمتوسّط. أما فرنسا التي عرفنا، فهي الخاسر الأكبر… هي التي ستعزل نفسها، وتحرم نفسها من تلك الطاقات. هي التي ستنقطع عن نفسها، وستخون صورتها ودورها، وتفقد تدريجاً قدرتها على التأثير. تفقد دورها كمصنع للنخب (التقدمية غالباً) في العالم الثالث. ستكتفي من الآن فصاعداً بإعداد نخب اقتصادية مقتدرة، لتجعل منها أدوات لمصالحها الاقتصادية، وسياستها الاستعمارية، وثقافتها الليبرالية الغربية البيضاء. ماذا عن فرنسا الأخرى التي عرفنا، هل فقدت روحها؟ فرنسا فوكو وجينيه وباتاي وسارتر والآخرين، ماذا بقي لديها كي تعطيه للعالم؟