شعبية الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في لبنان، هي حتماً أكبر من شعبيته في فرنسا. اللبنانيون عموماً مرتبطون بعلاقة عاطفية مع فرنسا لأسباب وراثية أكثر مما هي واقعية. كثير منهم ومن ساستهم يحملون جنسيتها أو ثقافتها ولغتها. جزء منهم يفضل استخدام لغة موليير على لغة الضاد، لأسباب يسميها الفرنسيون Snobisme (خيلاء). ولبعض ساسة لبنان منازل في باريس، أبرزها منزل الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي سكنه قبله غوستاف ايفيل باني البرج الصناعي الحديدي العظيم والجميل في قلب العاصمة.
يمكن الجزم بأن أهم العلاقات الفرنسية اللبنانية قامت في عهد الحريري. وحين تقاربت باريس ودمشق. الرئيس الديغولي جاك شيراك اختصر لبنان بشخص رئيس وزرائنا الراحل. كاد يتخلى عن كل التاريخ المسيحي اللبناني القديم مع فرنسا لأجله. بات الحريري الشريك الأهم الذي فتح كل الأبواب لعودة فرنسا الى الشرق الأوسط، ولإحياء التراث الفرنكوفوني. ساعده في جودة العلاقات الفرنسية السورية الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي أصر على إشراك باريس في تفاهمات نيسان بين لبنان وإسرائيل عام 1996 بالرغم من الاعتراض الأميركي آنذاك.
اليوم يصل هولاند الى لبنان، تاركاً خلفه شعبية في الحضيض. أقل من 10 في المئة من الفرنسيين يؤيدون سياسته (وفق استطلاع قناة BFM). سعى لأن يحسن هذا المستوى الكارثي عبر شاشة القناة الثانية بمقابلة مع 4 صحافيين بينهم النجمة الإعلامية اللبنانية ليا سلامة (ابنة غسان سلامة)، فكانت النتيجة أنه سجل نسبة حضور كارثية أيضا 14.3 من المشاهدين (حسب مجلة ماريان). ثمة من يقول إن سلامة ساهم في التحضير للزيارة الحالية.
هذه نسبة مثيرة فعلا للقلق قبل عام على الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ومقلقة كثيرا إذا ما علمنا أنه لولا التحالف الاضطراري بين اليسار واليمين في الانتخابات التشريعية الأخيرة لكان اليمين المتطرف هو الأول. كلما ضرب الإرهاب، وازداد النازحون، وتراجعت القدرات الشرائية الفرنسية، كلما كانت حظوظ اليمين المتطرف أكبر. وهي حالياً في أوجها. لعل في سوريا بعض السبب.
!Bienvenu au Liban…. mais
لا يسعنا في بلدنا المهجور بلا رئيس، والمشرّع على كل مجهول ولكل النازحين (نحو مليونين بين سوري وفلسطيني)، والمفتوح على الإرهاب والانتكاسات الأمنية، إلا أن نقول لهولاند: أهلا وسهلا بك في لبنان.. فهو تفضل بزيارتنا فيما دول كثيرة تُعاقب حاليا لبنان بذريعة «حزب الله»، ولا نجد من بين السفراء الكثيرين على الأراضي اللبنانية من تعاطف مع صحيفة «السفير» حين كادت تغلق أبوابها إلا قلة في مقدمهم السفير الفرنسي الخبير بشؤون المنطقة ايمانويل بون… بينما سفراء عرب وأجانب آخرون كانوا سيفرحون لو أُقفلت.
ولكن ما هي أسباب الزيارة؟
قرر الاتحاد الأوروبي قبل فترة تسليم مفاتيح النازحين الى تركيا. هي التي تقرر اليوم من تستقبل ومن تُمرِّر ومن تمنع. هي أيضا التي حصلت على مبالغ مالية جيدة لتهدئتها. أما لبنان والأردن البلدان الأكثر تعرّضاً للضيق الاقتصادي والديموغرافي والوظيفي بسبب النازحين فمتروكان لمواجهة مصيرهما بفُتات المساعدات. هذا طبعا واجب لبنان المؤقت حيال شعب سوريّ احتضننا واحتضن كل نازحي العرب من فلسطين الى العراق فلبنان في أوقات الشدة، ولكن الأمر يهدد فعلاً بانفجار ديموغرافي واقتصادي. لو حصل التوطين الذي جاء بعض المسؤولين الغربيين يحضروننا نفسياً له، فإن الأمر سيُحدث تغييراً ديموغرافياً يُضعف المسيحيين. فرنسا ترفض.
يأتي هولاند إذاً ليقول للبنانيين إنه يقف خلفهم في محنتهم هذه ويرفض التوطين. ولكن هل بيده حيلة؟
ربما تحريك الملف بقوة داخل الاتحاد الأوروبي وعلى المستوى الدولي مهم سياسيا وماليا. لكن هذا بحاجة الى غطاء دولي أميركي روسي. حتى الآن، يبدو أن موسكو وواشنطن مستمرتان في تهميش الأطراف الأخرى. هما تحتكران الحل السياسي وتوابعه. تشرفان على جنيف من دون شركاء فعليين. تفاهمتا بشأن الملف النووي ثم أشركتا المعترضين وغير المعترضين في حفلة التوقيع مع ايران. وهما اللتان أفشلتا المساعي الفرنسية لمؤتمر دولي حول السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين كان ينبغي عقده في أول أيار (مايو) المقبل، ذلك أن موسكو وواشنطن متمسكتان بالحل على أساس آلية اللجنة الرباعية الدولية.
لبنان هو البوابة الأقرب الى سوريا. آخر تصريحات هولاند تؤكد أن التفاوض الحالي الضروري مع الأسد لا يعني القبول ببقائه في نهاية الحل. هذا تراجع مهم حيال الرئيس السوري الذي كانت باريس تريد رحيله قبل الشروع بأية مفاوضات أو حل لكن شعبيته في بلاده تبقى أعلى من شعبية هولاند في فرنسا.
التراجع التكتيكي لا يعني أبدا أن باريس غيّرت موقفها المناهض للأسد. لعل أحد كبار المسؤولين الأمنيين اللبنانيين سمع مؤخرا كلاما فرنسيا حاسما في هذه المسألة مفاده: اننا ذهبنا كثيرا الى الأمام في مواجهة الأسد ونظامه وأي تراجع اليوم يبدو قاتلا. نشجع التفاوض لكي يرحل لا العكس. أما في دمشق فجزء لا بأس به من الشعب السوري المؤيد للأسد يعتبر فرنسا سبباً في تدمير بلاده وتشجيع الإرهاب.
مع ذلك حصلت تطورات عديدة لافتة: وفد من الاتحاد الأوروبي أعاد فتح العلاقات مع دمشق بذرائع إنسانية. برلمانيون وإعلاميون فرنسيون زاروا مؤخرا العاصمة السورية. ارتفعت أصوات كثيرة في باريس تطالب بالتفاوض مع سوريا لدرء الإرهاب عن فرنسا، كما أن وفداً أوروبياً رفيعاً بقيادة الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني تزور طهران ابتداءً من اليوم على رأس وفد من 7 مفوضين أوروبيين. جزء من الزيارة سيكون حول سوريا.
فصل لبنان عن سوريا
يسعى هولاند لفصل الملف السوري عن اللبناني. مهَّدت باريس بلقاءات مع «حزب الله». هذا مهم لأسباب ثلاثة، أولها أن هذه اللقاءات تأتي بالرغم من وضع السعودية والخليج وجامعة الدول العربية «حزب الله» على لائحة الإرهاب. وثانيها لأن اللقاء مع الحزب مهم أمنيا في سياق محاربة الإرهاب، وثالثها لأن العلاقة مع الحزب تتيح للفرنسيين حرية حركة أكبر في لبنان واحتمالا لنجاح مساعيهم في سياق الانتخابات الرئاسية وغيرها. باريس لا تزال كما أوروبا تعتبر الجناح العسكري فقط للحزب إرهابيا. (لا ندري كيف يفصلون العسكري عن السياسي، ولكن هكذا يفعلون).
الحركة الفرنسية في لبنان مهمة لباريس. هذا يعيد للدور الفرنسي في الشرق الأوسط بعض الوهج وسط غياب غير مبرر وحضور بريطاني وأميركي وروسي ودولي تكثف مؤخرا ربما لتشجيع التوطين. لكن الدور الفرنسي سيبقى مشروطاً بالملف السوري مهما كانت النتائج.
صحيح أن هولاند سيعلن الوقوف الى جانب لبنان ودعم الجيش اللبناني والحفاظ على الأمن وأشياء أخرى من هذا القبيل، لكن ثمة صعوبة تقارب الاستحالة في تحقيق نتائج مهمة، ما دام الملف السوري بهذا التعقيد، وما دامت باريس مستمرة بحركتها السياسية وربما العسكرية ضد الأسد…
هنا جوهر القضية وعقدتها… لعل هولاند لا يعرف كثيرا عن المثل القائل: «ما اجتمع اثنان إلا وكان الشيطان ثالثها»، لكن الأكيد أنه ما اجتمعت فرنسا ولبنان مرة أو تفرّقتا إلا وكانت سوريا سبب التقارب أو الفرقة. لذلك ثمة من يقول إن زيارة هولاند للبنان معنوية فقط، ويقول الفرنسيون إنه لا يملك عصا سحرية. هم على حق. العصا موجودة حاليا في واشنطن وموسكو.