التحذيرات الفرنسية المتكررة للدولة اللبنانية بضرورة الاسراع في اجراء الاصلاحات الاقتصادية المطلوبة لتسييل مقررات مؤتمر «سيدر»، لا ترتبط فقط بالوضع المتهالك اقتصاديا على الساحة اللبنانية، ولا بالشروط القاسية التي يضعها المجتمع الدولي امام لبنان لاثبات جدارته ومصداقيته في العملية الاصلاحية الموعودة، لكن الامر المقلق بالنسبة للفرنسيين هو حالة «العمى» الديبلوماسية السائدة في اوروبا عموما، وباريس خصوصا، حيال ما «يطبخ» للمنطقة في البيت الابيض، بالتنسيق مع رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتانياهو، وذلك دون اي تشارك في المعلومات او حتى في الخطوط العامة لمسار حل الازمات التاريخية او المستجدة، وهذا ما استدعى مجددا «رسالة» فرنسية شديدة «اللهجة» الى المسؤولين اللبنانيين دعتهم فيها الى ضرورة «التنبه» من التطورات المتسارعة خلال الاسابيع والاشهر القليلة المقبلة…
ووفقا لاوساط سياسية مطلعة على فحوى التحذير الذي نقله السفير الفرنسي في بيروت برونو فوشيه الى عدد من المسؤولين و«الاصدقاء»، يتبين ان باريس تشعر بالكثير من «الاستياء» و«القلق» في آن واحد ازاء تعامل الرئيس دونالد ترامب وادارته مع الحلفاء الاوروبيين وخصوصا مع قصر الايليزيه الذي باتت الاتصالات بينه وبين البيت الابيض شبه مقطوعة في الآونة الاخيرة على الرغم من المحاولات السابقة «لرأب الصدع» في العلاقة بين الطرفين عقب التغريدات المسيئة من قبل الرئيس ترامب لنظيره الفرنسي، لكن كل الاتصالات لم تنجح في اعادة الود المفقود بين الرجلين، وهذا الامر لن يكون متاحا في المدى المنظور، ويعتقد الفرنسيون ان لا امل في ذلك، والرهان يبقى فقط عدم تجديد ترامب لولاية ثانية…
وفي هذا السياق، لم يشعر الفرنسيون «بالصدمة» ازاء قرار الرئيس الاميركي الاعتراف بسيادة اسرائيل على الجولان، لان المقدمات لهذه الخطوة كانت واضحة، والخارجية الفرنسية تلقت تقارير قبل اسابيع بهذا الخصوص، وذلك عقب زيارة عضو الكونغرس الاميركي ليندزي غراهام الى اسرائيل، لكن الامر المثير «للريبة» كان في تجاهل الرئيس الاميركي لاستفسارات الرئاسة الفرنسية المتكررة حول هذه الخطوة ومخاطرها، ولم يراع الرئيس دونالد ترامب قواعد العمل الديبلوماسي المعتادة، وبدل ارسال التوضيحات اللازمة لنظيره الفرنسي، جاء الرد على نحو «فج» ومفاده ان هذه القضية «ثنائية» وترتبط بالعلاقة بين الولايات المتحدة واسرائيل، ولا شأن لاي دولة اخرى بهذا الامر… ويضاف الى مسألة الجولان ما هو اخطر ويرتبط بالتعاون المشترك في سوريا، وفي هذا السياق لم تبال الادارة الاميركية بالرسائل المتكررة من قبل باريس حيال الاستراتيجية المرتقبة هناك في ظل التناقضات الهائلة في التصريحات الاميركية حيال بقاء الجنود الاميركيين او انسحابهم، وقد اضطر الرئيس ايمانويل ماكرون الى ارسال وزير دفاعه الى واشنطن للاطلاع على تفاصيل الخطط الاميركية، لكنه عاد بعد سلسلة من اللقاءات مع القادة العسكريين والسياسيين دون اي جواب واضح، وابلغ الرئيس الفرنسي صراحة ان الاميركيين لا يريدون «اشراكنا بشيء»…
ولفتت تلك المصادر، الى ان ما يقلق الفرنسيين هو ان الادارات الاميركية المتعاقبة وعلى مدى هذه الفترة الطويلة لم تعترف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان، وحافظت على المبدأ الأساس في قرار 242 لمجلس الأمن انه «لا ينبغي الموافقة على اكتساب الأرض بالحرب»… وهذا يعني ان «الضم» لا معنى له من ناحية دولية، لكن ترامب يفرض الان قواعد عمل جديدة تقوم على مبدأ القوة، وتلتقي مصالحه اليوم مع نتانياهو لانهما يحتاجان إلى هذه الخطوة لإرضاء قاعدتهما السياسية، فرئيس الحكومة الاسرائيلية يعيش في ذروة حملة انتخابات، وهدفه منع تسرب الناخبين إلى خصومه في حزب «أزرق أبيض» ومنافسيه في معسكر اليمين. أما ترامب فهو يخوض منذ الان حملة سياسة مكثفة لضمان انتخابه لولاية ثانية في العام 2020، وهو اذا كان يرغب في المساعدة لإعادة انتخاب نتنياهو، فانه بعد ذلك سيطالبه بدفع ثمن لمساعدته، وهذا المساعدة قد تقضي بالقيام بالكثير من الخطوات المتهورة في المنطقة والتي لن يكون لبنان «بمنأى» عنها…
وبحسب تلك الاوساط، عبر الفرنسيون عن قلقهم ازاء ردود الفعل المحتملة على الجانب الاخر من الحدود، واذا كانت لدى باريس قناعة بان سوريا لن تتجه نحو المواجهة العسكرية المباشرة مع إسرائيل، لكنها تحذر من «عاصفة» قد تبدأ من الجولان، لان جهود حزب الله ومعه مجموعات سورية باتت تتبع تنظيميا له، قد نجحت في بناء بنية تحتية للعمليات في تلك المنطقة وهي ستتحرك عند الحاجة، وعندما يحين الوقت لا يعرف احد حجم رد الفعل الاسرائيلي وحدوده، خصوصا ان خطوة ترامب لم تترك اي تأثير على ميزان الردع في تلك المنطقة، بل زادت من دوافع تلك القوى على توجيه «رسائل» حاسمة بعدم القبول بالقرار الاميركي، وهذا ما يضع الجميع امام اختبار قد يكون غير مسبوق وقد يؤدي الى اشعال حرب غير متوقعة، بغض النظر عن حدودها وحجمها، ولكن الامر المحسوم راهنا بان الامور لم تعد «تحت السيطرة» بعدما كسر البيت الابيض قواعد «الاشتباك» السائدة منذ زمن، ولن يسمح له الاخرون في وضع «قواعد لعبة» تناسبه وتناسب الجانب الاسرائيلي.
وفي هذا الاطار، طرأ تبدل جوهري على «النصائح» الفرنسية للبنان، فبعد ان سمع المسؤولون اللبنانيون «نصيحة» بضرورة «تقطيع الوقت» بانتظار الانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة والتي قد تحمل معها تغييرا في «ساكن» البيت الابيض، وسط رهان الفرنسيين على عودة الديموقراطيين الى السلطة، اتخذت باريس موقفا اكثر تقدما يتماشى مع نسق التصعيد الاميركي غير المسبوق في «تهوره»، وابلغوا من يعنيهم الامر في لبنان ان وصفة «الانتظار» قد لا تكون مجدية في هذه المرحلة، والمطلوب الاسراع في تأمين استقرار داخلي «ومنعة» وطنية لمواجهة المستجدات، والاسراع في مناقشة «الاستراتيجية الدفاعية، بعدما نقض الرئيس الاميركي «التفاهم الضمني» مع دول الاتحاد الاوروبي القائم على مراعاة مصالحها في منطقة الشرق الاوسط، وعدم التسبب بهز الاستقرار الذي قد يسبب حالات نزوح كبيرة باتجاه الاراضي الاوروبية غير القادرة على استيعاب المزيد من هؤلاء في ظل انقسامات حادة بين دول الاتحاد من جهة، وتنامي خطر اليمين المتطرف الذي يأخذ من موجات النزوح ذريعة لجذب المزيد من الجمهور المتطرف، من جهة ثانية، ما سيؤدي حكما الى اهتزازات واسعة في البنية الاجتماعية الاوروبية…
وامام هذه المعطيات، لا تبدو التطورات مريحة للاوروبيين والفرنسيين بعدما فقدوا صفة «الشريك» مع واشنطن، وفقدوا ايضا القدرة على تقديم «المشورة» للادراة الاميركية المندفعة لتشديد الحصار على ايران، وتمرير «صفقة القرن» وفرضها على الفلسطينيين، وهذا ما قد يجعل لبنان في «قلب العاصفة» وليس على «هامشها»، كما تعتقد الدبلوماسية الفرنسية، التي تحذر من مرحلة ما بعد فوز رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتانياهو الذي سيكون في «رقبته» «دين» سيرده حكما للرئيس دونالد ترامب… وهنا مكمن الخطورة.