IMLebanon

عن باريس ودور “الساعي البريد” الذي وصلت إليه 

 

من دولة عظمى الى دولة تابعة، هكذا بات واقع الدولة الفرنسية في العالم ، الذي شارف على الإنتهاء بتوازناته وأحاديته، وعلى أبواب عالم جديد تغيّرت فيه موازين القوى صعوداً وهبوطاً، والذي ستُكمِل فيه باريس إنزلاقها الذي بدأته بعد آخر قرار اتخذته في عهد الرئيس الراحل جاك شيراك، الذي عارض فيه القرار الأميركي بغزو العراق عام ٢٠٠٣.

 

بعد هذا القرار لم يُسجَّل لفرنسا أي موقف معارِض للسياسة الأميركية في العالم، باتت وكأنها جناح من أجنحتها وحتى عندما يحصل تباين في بعض الأحيان بينهما، كان الأميركي مباشرة يُحرِّك الشارع الفرنسي، تماماً كما يفعل في العديد من دول العالم الثالث.

 

تراجعت باريس كقوة عظمى، بعد أن تدهور واقعها وتراجعت مكانتها في العالم، صحيح أنها لا زالت من اللاعبين الأساسيين في مجلس الأمن الدولي بفعل حق النقض الفيتو، إلا أن ذلك بات صوَرياً وليس فعلياً، جراء الإنتكاسات التي تعرّضت لها من جهة، ونتيجة خياراتها التي اتخذتها في العديد من المحطات الدولية من جهة أخرى.

 

بدأ التراجع يَظهر الى العلن عندما ألغت أوستراليا وبشكل مُفاجئ الصفقة المتعلِّقة بشراء غواصات فرنسية واستبدلتها بأخرى أميركية، واستمر ذلك خلال الحرب الروسية- الأوكرانية، الى أن وصل الى تراجع نفوذها في معاقلها التقليدية، وهنا كانت الإنتكاسة الكبرى التي ألمّت بها في دول إفريقية.

 

فبعد أن فقدت هيبتها كدولة كبرى، ولم تعد تلعب دور رسم السياسات في الخارج، انسحب ذلك على وضعها الداخلي، فبدأت تَظهر ملامح التردّي الإجتماعي، وباتت تتنقل من احتجاج لآخر بفترات زمنية متقاربة، بغض النظر عن خلفياته إن كانت خارجية أم شرارته سياسات إقتصادية، فالخلل شمل الرؤية السياسية للقيادة من وضع إقتصادي لإختلال داخلي، بحيث بات هناك أزمة قيادة داخل الدولة، وبالتالي أزمة سياسية وأزمة كيان وأزمة دور بعدما فقدت مرتكزاتها.

 

بدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون محاولات إستعادة الدور الخارجي لبلاده إنطلاقاً من المنطقة، فقرر أن يعود من بوابة لبنان آخر موقع فرنكوفوني لدولته، بعد أن أتاح له تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب عام ٢٠٢٠ الفرصة لتحقيق ذلك، فأتى الى لبنان كمُنقذ مُتحدِّثاً عن عقد سياسي جديد، وانتهى به الأمر الى حكومة مهمة، ما يُفسِّر عجزه عن إدارة الملف اللبناني، نتيجة جهله بالتركيبة اللبنانية والتعامل معها، رغم الإستعانة الفرنسية بالخبرة السورية في التعاطي مع الأفرقاء اللبنانيين.

 

في الأزمة الرئاسية طرحت فرنسا مبادرتها، وميّزت نفسها عن الخماسية بتعاطيها بواقعية مع القوى الداخلية بتوازناتها الحالية، فاستكملت انفتاحها على حزب الله الذي ظهر بشكل واضح من أيام الزيارات التي تلت تفجير مرفأ بيروت، فباريس تَعلم أن مصلحتها في لبنان هي بتعاطيها بواقعية مع الطرف الأقوى فيه، وعدم اعتماد أسلوب التجاهل والإستعداء، كما تفعل بعض دول الخليج وتحديداً المملكة العربية السعودية وأميركا بالدرجة الأولى، التي وضعت هامشاً لتحرّكها في لبنان، هامش قيّد الفرنسي كثيراً بمهمته، التي هي مِن الأساس لم تكن سهلة نظراً للتعقيدات الداخلية والبلوك المسيحي الذي اصطدم فيه.

 

تعقّدت المهمة الفرنسية داخلياً وخارجياً، إلا أن موفد الإليزيه لم يَنعِ مبادرة دولته رسمياً، بقيَ يدوِّر الزوايا ويحاول إنعاشها، للحفاظ على الدور الذي دفعه للدخول بالتعقيدات اللبنانية، فاستكمل ضرب مواعيد جديدة، الى أن تجمّد الملف الرئاسي بفعل التطور في المنطقة، الذي أحدثته ملحمة طوفان الأقصى والعدوان الصهيوني على غزة، ودخول جنوب لبنان الحرب كجبهة مسانِدة للقطاع حتى تحقيق المقاومة الفلسطينية النصر على العدو الإسرائيلي.

 

على ضوء التطور الكبير في المنطقة، الذي يُمكن القول إن ما بعده ليس كما قبله مع ثبات غياب دورها، بقيت باريس تَستجدي دوراً لها، رغم تطرّفها بموقفها الداعم “لإسرائيل”، نظراً للتأثير اليهودي الكبير في الداخل الفرنسي والثقل النيابي لحَمَلَة “الجنسية الإسرائيلية”، مما دفعها لفرض إجراءات قمعية على كل تحرّك داعم لفلسطين، ووصل بماكرون الأمر للحديث عن عقد مؤتمر ضد حماس، بالإضافة لفرض عقوبات عليها، إنسجاماً مع الإتجاهات الصهيونية الحاكمة داخل بلاده. فالإدارة المتصهينة بدأت بالبحث عن دور لها من خلال “إسرائيل”، بعد أن علمت أنها ستبقى خارج المعادلة في المنطقة بمرحلة ما بعد الحرب، فأخذت على عاتقها تطبيق القرار ١٧٠١ من الجانب اللبناني فقط عبر تشكيل لجنة أمنية مشتركة مع “إسرائيل” تعمل على تحقيق ذلك.

 

فبعد فشلها بتمايز نفسها، باتت فرنسا تتماهى مع الموقف الأميركي والخليجي، وقبلت على نفسها أن تكون “ساعي بريد”  للخماسية طمعاً ببقاء دور لها، ورغم تطرّفها بموقفها لناحية العدو، بقيت مُستنِدة على تعاطيها الإيجابي والواقعي مع حزب الله للحديث معه عن القرار ١٧٠١.

 

ورغم الضجيج الإعلامي الذي أحدثه هذا الكلام حول سيناريوهات خيالية تم طرحها، نسفها حزب الله بعبارة واحدة:  “أن أحداً لم يتحدّث معه عن القرار ١٧٠١”، فالآن وقت الحرب بحيث لا كلام سوى كلام الميدان، لذا فإن كل الكلام والضغط الإعلامي يَندرج في سياق المرحلة التمهيدية للحظة انتهاء الحرب على غزة، فهُم يريدون معرفة كيف سيَتعامل حزب الله بعد الحرب؟ فهذا ما يُقلق العدو الصهيوني ويُشعره بالخوف، لذا يحاولون إيجاد صيغة نهائية تنزع فتيل التوتر على الحدود، لكن العالم كلّه يَعلم أن حزب الله لا يُطمئِن أحداً، ولا يُقدِّم ضمانات لأحد، وأكثر من ذلك يَعتبر نفسه في هذه اللحظة غير مَعني بكل الطروحات التي يتم تداولها إعلامياً أو عبر مسؤولين.

 

فبعد أن كان الفرنسي يُحاول أن يلعب دور الوسيط لتقريب وجهات النظر بين الخارج والداخل، من خلال استغلال قنوات التواصل مع حزب الله، بات اليوم جزءاً من حملة الضغط والتهويل عليه، ضمن أجندة أميركية- “إسرائيلية”- غربية ليُصعِّب المهمة على نفسه أكثر ويُعقِّد دوره بسياسته ، التي انتهجها في حرب تضع المنطقة على مفترق طرق، فقد اختار أن يكون في المسار المهزوم فيها مِن السابع من تشرين والذي يُكرَّس بفعل العدوان الإسرائيلي الذي تُديره أميركا، والذي بدأ يتّضح يوماً بعد يوم من خلال الإرباك والقلق الظاهر عليهما، والذي أخرج الخلافات بينهما الى العلن، كسابقة لم يشهدها العالم من قبل بين أميركا و”إسرائيل”  منذ نشأتها..