ما لا يستطيع الوفد القضائي الأوروبي أن يقوله عن أهداف مهمته في لبنان، تكفّلت بإطلاقه السفيرة الفرنسية آن غريو. فعشية وصول الوفد، أذاعت السفيرة رسالتها للسنة الجديدة. ويُقرأ بين سطورها تلويحٌ بأنّ فرنسا، في سنة 2023، لن تُمنح القوى الممسكة بالسلطة في لبنان فرصةً لتكرار ما فعلته في العام 2022.
ركَّزت غريو على عبارة «التجدُّد»، وخاطبت الناس في لبنان، لا الحكومة والسياسيين، وقالت: «نريد من الذين سيتولّون مستقبلكم أن يرفضوا ثقافة الإفلات من العقاب المعمَّمة، ويلتزموا جدياً إجراء الإصلاحات ووضع الأسس لدولة القانون والعدالة». وأكدت أن فرنسا «ستواكب هذه الخطوات الضرورية».
الواضح أن فرنسا في صدد اتّباع نهج جديد في لبنان. فقد طوَّرت خطابها السياسي «التقليدي» المُنادي بـ»الإصلاحات»، وانتقلت إلى التشدُّد و»رفض سياسة الإفلات من العقاب»، وأرفَقت ذلك بخطوات عملانية يتم التعبير عنها سياسياً بتجاهل السلطة والقوى السياسية، وقضائياً بمشاركتها في وفد التحقيق الأوروبي العامل حالياً في لبنان.
يعني ذلك اتجاه الفرنسيين إلى تنفيذ خطوات عقابية عملانية في حق المسؤولين السياسيين والإداريين الذين سيَثبت ضلوعهم في الفساد، والمطالبة بإزاحتهم من مواقعهم، خصوصاً إذا تبين أنّ هؤلاء ارتكبوا جرائم على الأراضي الأوروبية. ففي هذه الحال سيلاحقون وفق القوانين الأوروبية أيضاً، ويحاسَبون. وإلا، فإنّ عقوبات أوروبية ستُطاولهم، على غرار تلك التي يفرضها الأميركيون على شخصيات لبنانية.
ثمة مَن يسأل: هل قرَّر الفرنسيون التخلّي نهائياً عن سياسة المسايرة وتدوير الزوايا التي يعتمدونها غالباً في لبنان، وباتوا أقرب إلى الولايات المتحدة في مقاربة الملف اللبناني، أم سيتراجعون لضرورات مختلفة كما فعلوا مراراً؟
ليست المرة الأولى التي يرتفع فيها مستوى الغضب أو الإحباط الفرنسي تجاه طاقم السلطة والإدارة في لبنان. فعند انفجار انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 دعم الفرنسيون شعار التغيير. لكنهم اختلفوا في ذلك مع الأميركيين في الأسلوب والأهداف. ثم عادوا بموقف أكثر تشدُّداً بعد انفجار المرفأ في آب 2020، إذ قاطعوا الحكومة اللبنانية وتوجَّهوا بالمساعدات إلى الشعب مباشرة، تماماً كما فعل الأميركيون.
وفي صيف 2021، أقرَّ الاتحاد الأوروبي إطاراً قانونياً لفرض عقوبات على المسؤولين اللبنانيين بسبب إساءتهم إلى الديموقراطية ودولة القانون. لكن الأوروبيين تهيَّبوا دائماً تنفيذ العقوبات عملانياً. وراهَن الفرنسيون على «تسوية ناعمة» يتوصّل إليها اللبنانيون أنفسهم، من دون ضغوط خارجية، وفضّلوا اعتماد سياسة كسب الوقت، لعل التغيير يتحقق تلقائياً وديموقراطياً في انتخابات 2022. لكنّ النتائج جاءت مثيرة للإحباط. فعلى رغم من الفوز الجزئي للتغييريين، لم يتقدّم البلد أي خطوة نحو الهدف المنشود.
لقد اعتاد ذوو السلطة في لبنان ممارسة «الدلع» في تعاطيهم مع فرنسا، واعتبروا دائماً أن باريس الحريصة على التوازنات بين المحاور كافةً في الشرق الأوسط، والتي تحتفظ برصيد لدى كل الأطراف في لبنان، لن تغامر في توتير العلاقات مع أحد من أجل فرض الحلول، وتالياً أن حدود الغضب الفرنسي قصيرة.
وهذه الصورة فيها كثير من الصحّة. ولكن ما يجب أخذه في الاعتبار هو أن الحفاظ على الدولة في لبنان هو أمرٌ يعتبره الفرنسيون من مصالحهم العليا، وأن استنفار فرنسا الحالي سببه اقتناع إدارتها بأن الدولة في لبنان تقترب فعلاً من تصنيف الدولة الفاشلة، مع ما يعنيه ذلك من خطر على الكيان اللبناني ككل.
لقد تدخّل الفرنسيون بقوة في كل مرّة وقع فيها الفراغ في مواقع السلطة، سواء بِتعثّر تشكيل الحكومات أو بتَعطّل انتخاب رئيس للجمهورية، كما هو الوضع اليوم، وحذروا دائماً من خطر «زوال» لبنان.
واليوم، يعتبر الفرنسيون أن لبنان، في ظل الطاقم السياسي الحالي، الرافض أي خطوة إنقاذية جدية، مُعرَّض فعلاً ليقع في تصنيف الدولة الفاشلة. فعناصر هذا التصنيف تتكامل: العجز الكامل عن إدارة الشؤون العامة وأبسط الخدمات، بقيادة طبقة فاسدة، وسط عجز عن فرض السيادة على الأراضي وهواجس انفجار العنف، وعجز الدولة عن إقامة علاقات ثقة مع المجتمع الدولي. وفي الواقع، إن قبول القوى السياسية بجَعل لبنان ساحة وصندوق بريد للنزاعات الإقليمية والدولية من شأنه أن يزيد المخاطر على الكيان.
لذلك، يأتي التوجّه الذي تعتمده الإدارة الفرنسية تجاه لبنان، في المرحلة الحالية. وسيكون الوفد القضائي الأوروبي، الذي يشكل الفرنسيون نواته الأساسية، بمثابة «العصا»، فيما الوعود بتحريك مساعدات مؤتمر «سيدر» المجمّدة هي «الجزرة».
مَن سيصمد في هذه المواجهة: الفرنسيون أم الطبقة السياسية؟ هل سيصرّ الفرنسيون هذه المرة على ممارسة الضغط الكافي، ما يُجبر قوى الفساد اللبناني على الرضوخ لمتطلبات الإصلاح أم سيرضخون مجدداً لـ»الدلع» اللبناني ويوافقون على تدوير الزوايا؟
ثمة مَن يقول: يستشعر الفرنسيون بالخطر على لبنان، وربما يمتلكون معلومات عن أيام سود تنتظره، نتيجة النزاع الإقليمي – الدولي على أرضه، ما قد يهدد مصيره فعلاً. ولذلك، هم اليوم في وضعية استنفار لا هوادة فيها. فليس عندهم شيء يخسرونه، فيما الخسارة الكبرى هي الكيان اللبناني الذي يحرصون عليه، وعلى ما يتمتعون فيه من امتيازات يصعُب تعويضها على مدى الشرق الأوسط والعالم العربي.