متجدداً كان العرض التقليدي الذي تقيمه الجمهورية الفرنسية كل سنة في الرابع عشر من شهر تموز، في العيد الوطني الذي يمثل ذكرى خالدة في التاريخ الفرنسي وفي وجدان الفرنسيين، يوم سيطر الثوار على سجن «الباستيل» رمز القهر والظلم والإستبداد. ولسنا هنا في معرض تحليل لهذه الثورة العظيمة ويكفي أنها الملهمة للإنتفاضات الشعبية في العالم كله منذ أكثر من قرنين وربع القرن. فقط كان لافتاً أن العرض تميّز بعلامات فارقة قد يكون أبرزها قاطبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي إستقر طوال المناسبة وعروضها قرب الرئيس الفرنسي ماكرون وقد أحاطت بهما السيدتان الأوليان مدام ماكرون ومدام ترامب.
ومن المفارقات اللافتة أن رئيسا في عزّ الشباب رافقته قرينته الكهلة، وإن رئيساً كهلاً رافقته قرينته الشابة… وبدا أنّ الزيين غير التقليديين (في هكذا مناسبات) لم يكونا، فقط، ما يميّز بين المرأتين (الفرنسية بالتايور الأزرق الغامق والأميركية بالأبيض المرقط بالزهور الكبيرة) إنما كان فارق السن طاغياً حتى من خلال تعليقات وسائط الإعلام التي رافقت الحدث مباشرة.
وبرغم المظهر الخارجي (في شعر الرأس على الأقل) المختلف بين رئيس الولايات المتحدة الأميركية ومضيفه رئيس جمهورية فرنسا، فإن الإثنين يأتيان الى السلطة، في مرحلة زمنية متقاربة، من خلفية المال والأعمال. فالرئيس ماكرون يأتي من عالم المال الى السياسة فالرئاسة. والرئيس الأميركي يأتي من قطاع العقارات الضخمة. وكلاهما أذهل العالم عندما ترشح وعندما فاز. ترامب لم يكن وارداً أن يفوز، بموجب إستطلاعات الرأي العام… وظل الغموض طاغياً على مصيره الرئاسي حتى إعلان النتائج، وماكرون كانت استطلاعات الرأي العام تستبعده حتى الأسابيع الأخيرة. عندما سطع نجمه بقوة ما دفع غير مرشح الى الإنسحاب من المعركة.
ولعلّ ما يميّز العرض العسكري الفرنسي هو أن الضباط والجنود وسائر العناصر البشرية الذين يشاركون فيه هم بشر وليسوا آلات.
فالنظام المرصوص (بلغة العسكر) يقوم على ناس من لحم ودم وليس على «روبوت» بشرية كما يحصل في الأنظمة الديكتاتورية التوتاليتارية التي تحكم بأقصى العقوبات، وربما بالموت أحياناً، على الجندي إذا «زاح عن الخط» سنتيمترات محدودة، ويلحق العقاب الصارم بالمسؤول عنه وربما أيضاً بالمسؤول عن المسؤول. وهذا ما يميز عالم الحرية عن عالم الإستبداد والقمع.
وإذ تعبر الآليات والفرق العسكرية وفرق الموسيقى والخيّالة تحت قوس النصر، يذهب الفكر الى نابوليون، فيبرز في الخيال «رجلا ولا كالرجال»: العظمة وجنونها، الأدب، القانون، السياسة، الإنتصارات العظيمة، والهزائم المدمرة، والموت في تلك الجزيرة منفياً.
إنها فرنسا البلد الذي يحلم كل إنسان بين المليارات السبعة أن يزورها، ويتسكع في شوارع عاصمتها المنوّرة، ويدلف الى مكتباتها الخطيرة، ويزور «لوڤرها» الفريد، ويتنسّم هواء الحرية فيها، ويدعو الهداية للإرهابيين الذين يضربون نقيضهم عندما يضربونها.
وكم كان رائعاً، ماكرون، وهو يلقي كلمة ختام العرض فيقول، في جملة ما يقول: «نحتفل بهذا المذاق المطلق للإستقلال الذي نسميه الحرية».