مصالح فرنسا في حمى “الثنائي”
فيما يسعى “الابن الضال” لاستعادة دولته واستردادها من ساحات الضلال والحروب، يبدو أن قلب “الأم الحنون” مشتّت بين مصالحها الخاصّة من ناحية والحفاظ على علاقتها العريقة مع بلد الأرز من ناحية أخرى. ورغم سجلّها الحافل بمبادرات وإسهامات دبلوماسيّة ومالية عديدة، يخضع ترتيب سياساتها وتبدّل صداقاتها اللبنانية، لمعايير “تثبيت النفوذ”، الذي يُشكّل هاجساً كبيراً لباريس، بعد تراكم فشلها وانحسار قواعدها في القارة السمراء.
هذا التباين الفرنسي في دعم الشرعية اللبنانية والاعتراف بشرعية “حزب الله” على حساب مفهوم السيادة، تَكَشّف في أكثر من محطّة، أكان في ملف انتخاب رئيس الجمهورية أو بتطبيق القرار الدولي 1701، حيث لعبت فرنسا دوراً مؤثّراً في المفاوضات التي أسفرت عنه بعد حرب تمّوز 2006، كما ساهمت في إقرار القرار الدولي 1559 الذي ينصّ على نزع سلاح كل الميليشيات بما فيها سلاح “حزب الله”. إزاء هذه التناقضات، من المفيد قراءتها على ضوء المنافع الاقتصادية كمنفذٍ لحضورها السياسي.
مع توريط “حزب الله” لبنان عنوةً في الحرب مع إسرائيل، وطرح مقترحات غربية وأميركية جديّة، تُحاكي الحلول الصلبة للأزمة الراهنة بدل “الترقيع”، أفادت مصادر مطلعة على أجواء “الإليزيه”، أنّ الفرنسيين “يشوّشون” منذ شهر ونصف تقريباً على المقترح الأميركي أو أي مشروع يُشكّل فرصة للدولة في استعادة سلطتها، وفكّ أسر لبنان من المحور الإيراني. إذ تسعى فرنسا إلى إجهاض الإندفاعة العربية والغربية في تطبيق الـ 1701 بكامل مندرجاته، من خلال الاكتفاء بتنفيذ الشقّ المتعلّق بجنوب الليطاني، وصرف النظر عن بنية “حزب الله” العسكرية في شماله وشرقه والضغط في هذا الاتجاه عبر رئيسيّ مجلس النوّاب نبيه برّي، وحكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي.
وتنطلق إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من فكرة، عدم استفزاز “الثّنائي الشيعي”، واعتماد سياسة الترقيع التي أنهكت اللبنانيين التوّاقين إلى بناء دولة فعلية تضمن استقرارهم. هذا الالتباس الفرنسي، الذي يُعزّز اعتبار المصالح الفرنسية فوق أي اعتبار تدعمه معطيات ومعلومات وردت في كتاب صدر عام 2022 في فرنسا، تحت عنوان “الإليزيه، وزارة الخارجية ووكالة المخابرات الفرنسية، أسرار حرب النفوذ الاستراتيجي” للصحافيين الفرنسيين كريستيان شينولت وجورج مالبرونو، يقولان فيه إنّ ماكرون “عقد صفقة مع “حزب الله”، يغض النظر بموجبها عن أسلحته وعملية تسليحه، مقابل الفوز بمناقصة تجديد مرفأ بيروت”. وبموجب “الصفقة” وفي العام ذاته من نشر الكتاب، حصلت مجموعة الشحن الفرنسية ” CMA-CGM ” على عقد إدارة وتشغيل وصيانة محطة الحاويات في مرفأ بيروت لمدة عشر سنوات، إضافةً إلى تشغيل محطّة الحاويات في مرفأ طرابلس، التي يملكها الملياردير الفرنسي اللبناني رودولف سعادة، المقرب من ماكرون. كما فاحت رائحة الصفقة أيضاً، بعدما توصّلت شركة النفط والغاز الفرنسية “توتال إنرجيز” في تشرين الأوّل 2022 (التي يملك فيها رجل الأعمال جيلبير شاغوري أسهماً كبيرة) إلى اتفاق مع الحكومة اللبنانية بشأن تشغيل منطقة الاستكشاف (بلوك 9) في المياه الإقليمية اللبنانية، مع دخول اتفاقية الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل حيّز التنفيذ.
هذا “الشراء والبيع” بين ماكرون و”الشيعية السياسيّة”، لم يقف عند منافعه الاستثمارية، بل حاول الطرفان “تقريشه” سياسيّاً، عبر تأييد مرشّح “الممانعة” سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية بدعم من الشاغوري ومحاولة تسويقه عربيّاً ولبنانيّاً، مما ساهم في خرق الدستور وتمديد الفراغ الرئاسي الذي دخل عامه الثالث. هذه الاندفاعة الثلاثية (ماكرون – الثنائي – فرنجية)، اصطدمت بحائط الصدّ المسيحي الذي قادته البطريركية المارونية إضافة إلى القوى السيادية المعارضة. وأسفر آنذاك عن زعزعة العلاقات المارونية – الفرنسية قبل ترميمها عقب زيارة السفيرة الفرنسية السابقة آن غريو إلى بكركي لإعادة توضيح الموقف الفرنسي.
مع انعدام حظوظ التسوية الرئاسية “الثلاثية” في ظلّ الحرب الدائرة وانعكاساتها على السّاحتين المحليّة والإقليمية، لم يبقَ أمام فرنسا سوى الحفاظ على مصالحها الاقتصادية المتأتية من فوائض قوّة “حزب الله” وهيمنته على مفاصل السلطة وتنفيعاتها الداخلية والخارجية.