أسوأ ما في زيارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الى لبنان انها جاءت في ظل الفراغ الرئاسي وعدم وجود رئيس للجمهورية، لم يكن الرئيس هولاند بحاجة الى كل هذه الترتيبات ك «بدل عن ضائع» ولم يكن اصلاً بحاجة لأن يأتي الى لبنان، وكان يكفي ان يرسل رئيس حكومته او وزير خارجيته الى هذا البلد للإستكشاف والإستطلاع، او الاكتفاء بتقارير سفيره في بيروت ايمانويل بون فهو دبلوماسي بارع ومحنك ونشيط ويعرف كل تفاصيل الوضع اللبناني.
لم نكن كلبنانيين يوماً الاّ مرحبين بزيارات رؤساء الدول الشقيقة او الصديقة. ولم يكن لبنان مرة الاّ مثالاً في حسن الإستقبال والضيافة. لكن المسألة مع زيارة هولاند مطروحة من زاوية مبدئية وسياسية لأن هذه الزيارة وبغض النظر عن ظروفها وتوقيتها فهي زيارة مرفوضة «في الشكل» طالما ان رئاسة الجمهورية شاغرة والقصر الجمهوري مغلقاً ولا يوجد رئيسآ للجمهورية، وطالما ان هولاند لم يحمل حلولاً ولم يحن أوان التسويات.
أن يأتي الرئيس الفرنسي أو أي رئيس آخر الى لبنان في مثل هذا الوضع الداخلي غير الطبيعي، فإن ذلك يعني تجاهلاً للتوازنات الداخلية اللبنانية او جهلاً لها، ولا تساهم الا في تكريس واقع الفراغ الرئاسي لمجرّد انها تعطي مؤشراً خاطئاً بأن الوضع في لبنان، سيّان مع رئيس الجمهورية ومن دونه، وبأن هناك استعداداً دولياً لقبول هذا الوضع والتعاطي معه بدل السّعي الى تغييره عبر مداخلات وضغوط دولية تُفضي الى تذليل العقبات المانعة لإنتخاب الرئيس.
اما ان يُقال ان هولاند جاء الى لبنان وموضوع الإستحقاق الرئاسي في صلب اولوياته وجدول اعماله وانه جاء يبحث ماذا يمكن فعله بإتجاه انجاز هذا الإستحقاق فإنه قول سخيف ولا يكفي لتبرير هذه الزيارة.
من هنا سألنا قبل الزيارة ونسأل بعدها: ماذا حمل هولاند معه وفي جعبته من حلول للمشاكل التي يتخبّط بها لبنان واولّها مشكلة شغور الموقع المسيحي الأول في البلاد؟ واذا صحّ ان ازمة الرئاسة تشغله وتقض مضجعه وانه شاء دخولاً شخصياً ومباشراً على خطّها لإيجاد حلّ لها فهل الحل هو في لبنان؟ وهل كل من التقاهم هولاند في لبنان من شخصيات سياسية بيدهم الحل او الربط ام الحل في مكان آخر يعرفه جيداً الرئيس الفرنسي؟
نحن نعرف ان فرنسا حاولت مشكورة ايجاد حل لأزمة الرئاسة اللبنانية وأجرت اتصالات مع دول اقليمية فاعلة ومعنية بالوضع في لبنان وتوصلت الى استنتاجات وخلاصات مفاده ان المخارج والحلول الرئاسية في لبنان باتت متوقفة من جهة على جلاء الوضع في سوريا، ومن جهة ثانية على حدوث انفراجات وحوارات بين ايران والسعودية وهذا ما يؤثر ايجاباً على حلفاء الدولتين في الداخل اللبناني ( حزب الله وتيار المستقبل) ويساعد على انتخاب رئيس للجمهورية.
كما ان الرئيس هولاند نفسه أجرى مشاورات ولقاءات مع شخصيات لبنانية في فرنسا، لكن اللافت والمفارقة فيها انها لم تشمل مسؤولاً رسمياً او شخصية سياسية مسيحية، ولا نعرف اذا كان هناك من اقنع هولاند بأن المسيحيين هم المسؤولون عن عدم انتخاب رئيس، في الوقت الذي يعرف هولاند ان المشكلة الحقيقية هي في مكان آخر.
يجب على الرئيس الفرنسي ان يعرف ان المسيحيين ليسوا مسؤولين عن عدم انتخاب رئيس للجمهورية واكبر برهان على ذلك ان التفاهم الذي حصل بين «القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر» لم يوصل الى انتخاب رئيس للجمهورية، ولا حتى ترشيح سعد الحريري لسليمان فرنجية ادى الى انتخاب رئيس للجمهورية, بل حقيقة الوضع هو ان المسيحييين يدفعون ثمن الصراع (الشيعي – السني) المستعرّ في المنطقة، وهذا ما يلقي بثقله على لبنان والمنطقة.
من هنا لدينا تساؤلات عن زيارة الرئيس هولاند وتوقيتها، وايضاً لدينا حيالها شكوك وريبة. ونخشى ما نخشاه ان يكون الهدف الرئيسي والفعلي للزيارة هو ملف اللاجئين السوريين والبحث في كيفية تثبيتهم في لبنان وادماجهم اقتصاديا واجتماعياً فيه. وهذه الخشية لها ما يبرّرها مع إقدام فرنسا تحت وطأة ما تتعرض له من هجمات ارهابية وما تواجهه من اخطار اللجوء الى اوروبا على مراجعة سياستها وتغيير اولياتها بحيث لم يعد لبنان يهمّها الا بقدر ما يتعاون معها في مكافحة الإرهاب وفي إحتضانه لللاجئين وإبقائهم على ارضه.
ان زيارة هولاند الى بيروت لم تعكس رغبة بايجاد حل لأزمة الرئاسة بقدر ما تقدم دليلاً على ان الأوروبيين والغرب عموماً يعتادون على فكرة واقع عدم وجود رئيس جمهورية للبنان. وهذا في حدّ ذاته تقليل من شأن ومكانة المسيحيين في لبنان كوجود ودور ورسالة. كما انه ينطوي في حد ذاته على خطر احتمال ملاقاة المخطط الاسرائيلي الذي يهدف الى تقسيم المنطقة الى دويلات والذي يتغذى من حروب وصراعات ما سميّ بـ «الربيع العربي».
فعندما يتلقى المسيحيون إشارات دولية غير مشجعة تفيد بأن البلد «ماشي» معهم ومن دونهم وبأن دورهم لم يعد له قيمة ومكانة ولم يعد فاعلاً ومؤثراً ولا يُؤخذ في الحسبان وبعين الإعتبار، فمن الطبيعي والحال هذه وبعد كل ما حصل مع المسيحيين من تهجير واضطهاد وقتل وذبح في العراق وسوريا ان يبحثوا عن البدائل وعن حلول واوضاع تحفظ حقهم ودورهم ومكانتهم ووجودهم، وان ينجذبوا الى صيغ الفدرالية او الإتحادية وغيرها من الاسماء المطروحة اليوم على بساط البحث في معظم بلدان المنطقة المشتعلة.
المسيحيون كان لهم الدور الأساسي في حفظ وحدة لبنان وفي إضفاء هذا الطابع الريادي و«الرسالي» على دوره في المنطقة العربية وفي إعطاء لبنان هذا التميّز والقيمة المضافة. ولكن يقع على المسلمين في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة مسؤولية القيام بهذا الدور وفي حفظ وحدة لبنان عبر الحفاظ اولاً على الدور المسيحي من خلال المشاركة الفعلية في السلطة والدفع في اتجاه انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتقديم ما يلزم من تسهيلات لاجراء هذا الاستحقاق، وان لا يساهموا عن قصد او غير قصد في ترسيخ وتكريس هذا الأمر الواقع.
من هنا نحن لا نفهم كيف يُصار الى تنظيم انتخابات بلدية في وقت كل البلاد مشلولة ومتوقفة من رأسها الى أخمص قدميها، وليس هناك استقرار واكتمال على مستوى قمة السلطة، وفي وقت بات السباق محموماً بين انتخاب رئيس للبلاد وانهيار البلد، بحيث لم يعد الخلاف السياسي ترفاً فكرياً او اختلافاً في وجهات النظر بل تحول الى خلاف يهدد البلد بسلمه الاهلي من جهة وبسلمه الاقتصادي الاجتماعي ومستقبله من جهة ثانية، كما اننا لا نفهم كيف يُصار الى الإحتفاء برئيس دولة اجنبية ايّا تكن هذه الدولة، في وقت ليس في لبنان رئيس دولة ولا دولة.
في الختام اقول لفرنسوا هولاند … فخامة الرئيس ليتك لم تأت، لان زيارتك ينطبق عليها المثل الشعبي المعروف «تيتي تيتي» واللبنانيون يعرفون التتمة.