يُسَجَّل لسليمان فرنجية أنه سار على «خطٍ مستقيم» منذ أن بدأ مُزاولة العمل السياسي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، قبل تعيينه نائباً في مجلس النواب اللبناني العام 1991 بُعيد إقرار «اتفاق الطائف»، وانتخابه بعد ذلك بعام ليدخل أول برلمان بعد الحرب الأهلية اللبنانية.
و «الخط المستقيم» هنا مقياسُه سياسي. هو «ثباتٌ على الموقف» من وجهة نظر حلفائه، و «إصرارٌ على الخطأ» كما يرى الخصوم. هو سيرٌ في حقل العمل السياسي من دون تعرّج أو تستُّر، تحديداً لناحية الخيارات الاستراتيجية الكُبرى، أي لجهة التحالف مع «حزب الله» ونظام دمشق وإيران. علماً أن مواقف فرنجية غالباً ما تأتي مصحوبة بجرعة من «الصراحة» المُريحة للبعض والمُستفزّة للبعض الآخر، إلى حدٍّ دفع سيّد الانعطاف والقفز من قاربٍ إلى آخر – الصريح بدوره – النائب وليد جنبلاط، إلى الثناء عليه لـ «ميزته» تلك، بل زاد على ذلك قائلاً قبل أسابيع: على الأقل، فما بقلبه على لسانه.
على أن الغزل بين «البيك» جنبلاط و «البيك» فرنجية، مفهومٌ لكثير من الاعتبارات التي تتجاوز «الكلام بتلقائية» أو من دون تحفظ. فكلا الرجلَين سليل عائلة «عريقة» في العمل السياسي، أي «إقطاعية» إن أردنا التوصيف بلا تجميل وبما للعبارة من دلالات وحمولاتٍ سياسية واجتماعية. والاثنان يفهمان العمل في الميدان السياسي على أنه «قدرٌ لا يسَعُ الزعيم الفرار منه»، كما قال جنبلاط يوماً. كما أن الرجلين ارتديا عباءة الزعامة على مسرح الحرب الأهلية، التي شكّلت بالنسبة لكلٍ منهما فصلاً تراجيدياً خاصاً، كما لكثير من اللبنانيين الذين قاتلوا إلى جانب هذا الزعيم أو ذاك، أو قرّروا الوقوف خارج مربّع الاقتتال الطوائفي وطالتهم شظاياه. فكما أن جنبلاط أمسك بمقود «الحزب التقدمي الاشتراكي» في أواخر العشرينيات من عمره إثر اغتيال والده في أوج خصومته للنظام السوري العام 1977، تبوّأ فرنجية مقعده في سدّة «حزب المَرَدة» بعد اثني عشر عاماً من المجزرة التي أودَت بعائلته في ذروة تحالفها مع دمشق وخصومتها مع «الكتائب» في العام 1978.. وقد كان في منتصف العشرينيات حين دخل عالم السياسة من بوابة السلم الأهلي بعد «الطائف».
فرنجية بالمعنى المذكور أعلاه هو ابن «النظام اللبناني» بامتياز. دفع قسطاً من أثمان الحرب الأهلية، ثم نال بعض مكاسبها. إرثُ عائلته السياسي سابقٌ على الحرب تلك، لكن تاريخه الخاص نتيجةٌ لها. كان لعائلته حصّة في زمن «المارونية السياسية»، ثم استمر الأمر بعد تعديل النظام الطائفي وموازينه وآلياته.. إلى أن خرج من مجلس النواب في لحظة اختلال توازنٍ مؤقت، تلت اغتيال الحريري الأب والخروج السوري من لبنان العام 2005.
لم يدّع فرنجية الخروج عن التقليد يوماً، بل سعى، أكثر من غيره من أركان الطبقة السياسية على الأرجح، إلى تثبيت هذا التقليد. من هذه الزاوية يمكن قراءة إصراره على الحفاظ على قانون انتخابات العام 1960، الذي يُطوّب له منطقة زغرتا دائرة سياسية لا ينازعه عليها أحد. ومن هنا يمكن استيعاب وقوفه خلف العماد عون طوال السنوات الماضية، على اعتبار أن الأخير يمثّل حالة لبنانية عامة، بينما يعكس فرنجية حيثية مناطقية خاصة. ومن هنا أيضاً بالإمكان فهم «الكيمياء» التي تجمعه ورئيس مجلس النواب نبيه بري والنائب وليد جنبلاط، على اعتبار أنهم يشكّلون أعمدة نظام ما بعد الحرب إلى جانب الحريري الأب، وهم بالتالي أركان النادي السياسي الثابت الذي عاد ليتسع إلى قوى مسيحية كانت خارجه حتى العام 2005، وإلى «حزب الله» الذي أبقى رجلاً خارج النظام ورجلاً داخله، لاعتبارات وجودية في كلتا الحالتين.
سليمان فرنجية يقف اليوم على طريق قد يفضي به إلى القصر الجمهوري، وقد ينحرف عن مساره قبيل بوابة القصر بأمتار. لا يسعُ أي عاقل أن يتوقع سير الرئيس المحتمل بعكس ما تمليه عليه هويته وإرثه السياسيَان، بصالح ذلك وطالحه. الأكيد أن عقلية الإقطاع، إذا ما تبوأت منصباً ما، لا تفيد أي تطلعٍ إلى تغييرٍ ظهر من يُطالب به قبل أشهر (هل مَن لا يزال يذكر «الحراك»؟). لكن ترشيح فرنجية المستجدّ يمكن أن يسمح بتطوير ما سبق إظهارُه من أساليب اعتراض على أداء الطبقة السياسية وتجدّدها اللامتناهي.
باستطاعة مَن لا يزال مؤمناً بضرورة إصلاح النظام اللبناني أن يحكم على المرشح سليمان فرنجية ربطاً ببرنامجه السياسي بدلاً من العودة إلى مربعات الانقسام السابقة، وإن كان يُستبعَد أن يأتي بطرح قبل انتخابه – إن حصل. والحديث هنا عن المكوّن الإصلاحي الداخلي لأي برنامج، لا عن وجهة السياسة الخارجية التي لن تعكس سوى توافقات تنتجها موازين القوى في الداخل والإقليم بأي حال.
وبما أن المؤشرات تدلّ حتى الآن على ربط انتخابات الرئاسة بإقرار قانون انتخابات نيابي، فقد يُفيد – نظرياً – طرح موقف من المرشح الرئاسي يُسنَد إلى معيارٍ واضح: إذا أتى فرنجية رئيساً للجمهورية مع إقرار قانون انتخابي على أساس النسبية والدائرة الموسّعة، فلعل ذلك من حسنات الانتخاب، على اعتبار أنه يعدّل من قوانين اللعبة المتوارثة داخل البرلمان، ويسمح بتوسيع هوامش التمثيل، وبالتالي الاعتراض والشفافية والرقابة والمحاسبة وخرق أسوار الطوائف، بالتدريج. إن حصل ذلك، يكون فرنجية قد لبس فوق ثوب «البيك» التقليدي المحلي، بزة أول رئيس لمرحلة ما بعد بعد «الطائف».
لكن الجسر الفاصل بين «البيك» و «الرئيس» يحتاج إلى حراك ضاغط في الشارع موازٍ لعملية الانتخاب حتى يُشيَّد. و «الحراك» الشعبي وُلد مُتعثراً، ولم ينضج تماماً، ثم انحسر سريعاً. كان يُفترَض أن تكون هذه لحظته.