مشروع «التسوية الشاملة» التي تطرح كل القضايا السياسية المختلَف عليها، على طاولة البحث والتفاوض والتي أطلقها سماحة السيد، حيث تلقّفها الرئيس سعد الحريري بعيد طرحها للجميع وعلى الجميع، وهي تنتظر طرحا رسميا، وطاولة حوارية، وإجماعا وطنيا يلملم كل الفئات والجهات إليها، هل ما هو مطروح من سماحة السيد ومتلقف من الرئيس الحريري يمثل المشروع نفسه والمبادرة نفسها والتلقف ذاته في الطروحات اللاحقة التي تُسمِّي النائب سليمان فرنجية لرئاسة الدولة، وهل الشكل المختلف والاقتراح المعدل والمسيرة المطروحة هي ما نشهده اليوم على ساحة المبادرات والمساعي الدائرة نحو فرض الحل المنشود في مرحلة زمنية فرضت فيها التطورات الإقليمية والدولية هذه الانطلاقة الجديدة التي جاءت بعد طول نفي وتستر، على شكل مفاجأة لها دويّ القنبلة وصوتها ومفعولها على مدى كلّ الساحات اللبنانية.
هل هذا المشروع الذي تكلل باقتراح النائب سليمان فرنجية، أحد أقطاب الثامن من آذار بكل مكوناتها لمركز الرئاسة، كان المقصود به أن ينتج حلاً لأزمة طاولت رئاسة الدولة فعطلتها وقطعت رأسها بما يشبه الأفاعيل الداعشية، واستمر الرأس مقطوعا والجسم مشلولا على مدى سنة ونصف، طفح فيها كيل الشلل الحكومي إلى حدود العجز الكامل عن إيجاد أي حل لأية قضية حتى ولو كانت قضية زبالة ونفايات. مضافا إلى ذلك الشّلل الذي طاول المجلس النيابي إلى حدود أضاعت معالم الدستور بمضامينه كمجلس للتشريع وترسيخ الأسس الديمقراطية، فشهد لبنان جملة من القواعد المختلقة والأسس المخترعة، وقيل للبّنانيين: بعد الآن، هذا دستوركم وهذه قواعدكم أمكثوا حيث أنتم وتعودوا إلى ما شاء الله، على دولة معطّلة في مؤسساتها وفي حقيقة ميثاقها وفي منابع ديمقراطيتها التي جعلت من لبنان منذ نشأته، البلد الديمقراطي الوحيد في منطقة عجّت بشتى أنواع الأنظمة الدكتاتورية، وكأنما العدوى أخذت تطل برأسها الرهيب والمرعب إلى هذا البلد النخبوي بنظامه السياسي الديمقراطي الجمهوري، وبأبنائه وبصفاته الاجتماعية وعيشه المشترك، ووصل بنا الحال إلى تعطيل كامل لأبهر وأفضل ما كنا نباهي به، ونكاد اليوم مع الأسف أن نصل إلى تخوم الدولة الفاشلة بكلّ مضامين الفشل البنيوية والاقتصادية والكيانية.
أن يكون لنا رئيس جمهورية في وقت قريب تطوّر مذهل بقدر ما هو غير مرتقب في هذه الفترة وهذه الظروف.
أن يجيء اقتراح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية من قبل الرئيس الحريري، أمر أكثر اذهالا وأشدّ بعدا عن الترقب في هذه الأيام التي تحفل فيها المنطقة بشتى أنواع الالتهابات والتفجيرات والتوقعات المرعية وخاصة منها ما تعلق بالجارة سوريا.
أن يُعزل لبنان عن محطيه اللاهب وتطورات الأحداث الخطيرة الدائرة على أرضه وتلك الأحداث المرتقبة بهول أقوى وأشد في المرحلة القريبة من هذا الزمن العصيب، أمر جيّد بل هو جيد جدا إذا ما توفرت له مقوماته وأسسه السليمة سواء أكان السعي إليها داخليا أم خارجيا.
وفي ما خصّ الأسس الخارجية: على ما يبدو بوضوح، أن هناك جهدا دوليا متناسقا لعلّه نشأ في اللقاءات التي تمّت في أكثر من بلد أوروبي، وعلى هامش دراسة الوضع السوري والعراقي مضافا إليها المباحثات التي تمت بعد الاعتداء الداعشي المتوحش على باريس وما خلّفه من آثار مرعبة ومؤسفة على الصعيد العالمي، بما بدأ الاستعداد في أكثر من موقف غربي لمقاومته بالحرب والاجتثاث والاقتلاع، ويبدو، أن هناك استثناء غربي ومظلة ما، صادرة عنه تكونت مؤخرا لدرء ما أمكن من الأخطار والأضرار عن لبنان وعن بعض أوضاعه الخاصة المستثناة من آثار الأوضاع العامة الملتهبة في المنطقة، ومن الغضب الغربي الساطع الذي تشكّل بعد اعتداء باريس.
وفي ما خصّ الأسس الداخلية، وهي التي تحتاج إلى بعض التوقف والتدارس والمعالجة الدقيقة.
8 آذار… تعيش في هذه الأيام نتائج ما بعد المتفجرة السّياسية التي أطلقت في الساحة اللبنانية والتي وصلت إلى بعض من مداها، وما زال مداها الآخر قيد التحسب والتوقع، وسط أجواء من الغموض والتساؤل حول طبيعة هذا الحدث ودوافعه وأهدافه، وأول المتربصين للمعلومات والتحسبات والاستنتاجات، هو الجنرال عون، وقد اختلت توازنات حساباته التحالفية والرئاسية، فعلى صعيد تحالفه مع تيار المردة، فإن التكويعة الكبرى للنائب فرنجية شكلّت إنتكاسة هامة لمشروعه المستند إلى مبدأ: أنا أو لا أحد، كما والمستند إلى تصريحات ومواقف النائب فرنجية السابقة التي شدد فيها تكرارا على أن مرشحه هو الجنرال، وأنه لن يترشح إلا إذا لم يعد الجنرال مرشحا.
أما على صعيد تحالفاته مع حزب الله والمعززة بتاريخ طويل من المنافع المتبادلة والتأكيدات حزب اللّاهية على أن الجنرال هو مرشح الحزب، وأن على الذين يريدون حلّ مشكلة الرئاسة، التوجه إلى الجنرال والتباحث معه بشأنها، ولعل تصريح السيد الأخير بهذا الشأن بأن طريق الرئاسة يمرّ بالجنرال عون وما لاقاه من تفسيرات مختلفة، فيبدو أن ما اعتبر بأنه التراجع الخجول الأول للحزب عن وعوده بالخصوص الرئاسي حيث ورد أكثر من تفسير يذهب إلى أن السيد يهدف إلى القول، لم يرشح الجنرال بل ذكر أن طريق الرئاسة تمر به. وجاءت الأحداث الأخيرة، والصمت الغريب العجيب الذي واجه به الحزب الانفجار المدوي الذي أطلقه الرئيس الحريري على الساحات اللبنانية ليؤكد على الحرج الكبير الذي يواجهه الحزب تجاه الجنرال، وعلى أنه غاطس حتى أذنيه بصمت فاقع وحنكة واسعة، في التطورات الرئاسية الأخيرة.
أما على صعيد الرابع عشر من آذار، فليس الوضع بأفضل مما هو عليه لدى غريمه التقليدي الثامن من آذار، خصوصا على صعيد القوات اللبنانية، وقد أحرجت تماما بالتطورات الأخيرة وبموقف تيار المستقبل بخصوص الوضع العام الذي أشار إليه سماحة السيد من خلال اقتراح المصالحة الشاملة، ويبدو أن الحكيم هو الآن في صدد تطوير مواقفه وشحذ الهمم في مواقعه، لمعارضة ما يُشغل لها وتدور حول الوضع الدقيق المستجد، مشيرين بهذا الصدد إلى أن هناك توجهات في بعض الصفوف المسيحية تدعو إلى تحالف ما، بين التيار الوطني والقوات، لترسيخ أسس معارضة متماسكة وفاعلة، الأمر الذي ربما لقي هوى لدى بعض القيادات القواتية، وواقع الأمر أن اخشى ما يخشاه اللبنانيون أن تنقلب الأمور وتتطور إلى حدود نسف الأسس السياسية القائمة في لبنان وقسمتها العمودية ما بين فريق 14 آذار و 8 آذار وفي كل منهما تعادل وتوازن طائفي يضم مسلمين ومسيحيين، إلى قسمة جديدة بأسس مختلفة ويكون الخطر فيها ناشئا عن انقلاب إلى فئتين: الأولى تضم الإطارات السياسية الإسلامية، والثانية تنكفئ بغالبيتها الفاعلة إلى إطارات سياسية مسيحية.
خلاصة للوضع الحالي: ضباب واسع يغطي المشهد السياسي بكامله، اللبنانيون باتوا يعرفون في الصدد الرئاسي أشياء وخفيت عنهم حتى الآن، جملة من الأشياء، وتجاه التغيّرات والتحولات الجذرية الحاصلة، ازدادت نسبة خشيتهم وتحسباتهم، وبانتظار انقشاع الرؤيا وتلمس مفاتيح الوقائع والحقائق، مع تسليمنا بأن سلامة الرؤيا لدى الشيخ سعد في نظرته العامة إلى الأمور وإلى مقاليد القيادة الإسلامية والوطنية فإننا واثقون من حكمته ودرايته وقدرته على توجيه الدّفة إلى المرفأ الصحيح والسليم.