IMLebanon

ترشيح فرنجية: الحريري يعيد جعجع 37 عاماً إلى الخلف

في كل مرة يتكرر فيها الأمر نفسه: تزايد قوى 8 آذار في جلد نفسها، مبعدة الأنظار عن تخبّط خصومها في مشاكلهم، وموفرة الوقت والظروف لهؤلاء ليعيدوا تنظيم أنفسهم لإحراجها أكثر فأكثر. ترشيح سعد الحريري لسليمان فرنجية ليس مشكلة لـ 8 آذار ولا أزمة تتطلب استنفاراً عونيّاً ــــ مرديّاً. هو مشكلة لـ 14 آذار وأزمة ــ لا قبلها أزمة ولا بعدها ــ بين المستقبل والقوات اللبنانية

في الشكل، ما من ورقة توت هذه المرة: لا عذر صغيراً أو كبيراً، ولا تبرير أو لفّ أو دوران. يقول سعد الحريري علناً إنه مستعد لوضع كل الخطب والشعارات والمشاعر الشخصية جانباً لتحقيق هدف وحيد. ليس معرفة حقيقة من اغتال والده، مثلاً، أو سحب سلاح حزب الله أو تخليص البلد من أزمته الاقتصادية. الهدف هو عودته إلى السلطة للإمساك مجدداً بمفاتيح الصناديق وحساباتها المالية واستعادة اللقب الرسمي الذي يخوّله دخول القصور الملكية في السعودية وغيرها وعقد الصفقات، لكن الفضيحة لا تقف عند الحريري، بل تشمل الجميع: كل من يزايدون عادة ويتفلسفون ويصعّدون ويهدّدون ويتوعّدون.

يستعيد هادي حبيش وفريد مكاري وبطرس حرب وفارس سعيد ماضيهم ويشبكون أيديهم لرقص العرضة خلف الشيخ سعد. على خطى والده، يسير الحريري خلف مصلحته الشخصية وفوق رؤوس حلفائه.

كان رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع يعتقد بأنه سيكون شريك رفيق الحريري والمجلس ونبيه بري ووليد جنبلاط في الاستفادة من خيرات اتفاق الطائف بعد جهده العسكريّ والمعنوي لتثبيت الاتفاق ميدانياً، حين زجّت به حكومة الحريري في السجن وأبقته فيه طوال حياة الحريري السياسية. رغم ذلك، يكرّر «الحكيم» الرهان نفسه. كان يعتقد أن أموره بلغت أخيراً أحسن ما يمكن أن تبلغه، وأن الحلم المتواصل منذ عام 1978 يتحقق أخيراً: داني شمعون في القبر، ودوري لا يعرف «وين الله حاطّو». طوني فرنجية في القبر، فيما سليمان متقوقع في زغرتا. بيار الجميل في القبر، فيما سامي يتقوقع. العماد ميشال عون قرر أن يترك من بعده حزباً لا زعامة. أما شبح العميد شامل روكز الذي حام فوقه ليالي عدة فبات من دون نجوم حين خلع البذلة العسكرية. يقرأ رئيس القوات وضعه:

ــــ أولاً، الوضع المالي جيد جداً ومستقر. صحيح أنه يخسر قليلاً من الميزانية المخصصة له لمصلحة هذا أو ذلك بين موسم وآخر، إلا أن صراخ الحريريين والكتائبيين وغيرهم يقابله ارتياح ماليّ قواتيّ لا تلوح فيه أزمة أو تقشف.

ــــ ثانياً، سيف الدعاوى القضائية فعل فعله. لم يعد أحد يجرؤ على وصف الرجل بأوصافه الحقيقية. وبات النواب والوزراء العونيون يتطوعون شخصياً للدفاع عنه والحؤول دون ذكره في أوساطهم بأي سوء.

ــــ ثالثاً، بات جعجع صاحب صفة «رسمية» هي «المرشح إلى رئاسة الجمهورية» بعدما نجح بفرض نفسه مرشحاً وحيداً لقوى 14 آذار. واعتقد أن علاقته المستجدة بالعماد ميشال عون ستتيح له تزكية مرشح على آخر عند الجنرال، فيغدو العراب الرسمي لرئيس الجمهورية.

ــــ رابعاً، تمكّن من تفصيل بنية تنظيمية حزبية على مقاسه ليس فيها من يناوئه أو يشكك في قيادته.

ــــ خامساً، الوضع المناطقي يبدو واعداً. إطمئنان في بشرّي مع لا مبالاة قوى 8 آذار بدعم النائب السابق جبران طوق وعدم حماسة ابنه وليم للعمل السياسي. وضع الكورة في تحسن مستمر حيث تحسم القوات نيتها الحصول على مقعدين، بدل مقعد، في انتظار الحصول مستقبلاً على مقاعد القضاء الثلاثة. وضع البترون مستقر لناحية حصول القوات على مقعد نيابي من اثنين. عدد المحازبين يرتفع بوتيرة مقبولة في قضاء زغرتا. ونية القوات محسومة لناحية مطالبة المستقبل بمقعد نيابي على الأقل من مقاعد عكار السبعة بعدما عززت نفوذها نسبياً في القضاء العونيّ. في طرابلس، شعبية القوات أكبر بما لا يقاس من شعبية الكتائب، ولا بدّ بالتالي أن ترث مقعد سامر سعادة. أما في زحلة فمن الواضح أنها تريد مشاركة أكبر في تسمية المرشحين السني والشيعي إلى جانب نوابها الثلاثة الحاليين. وفي الأشرفية ما من شيء يوحي بقبول القوات الحصول على أقل من مقعدين من المقاعد الأربعة التي يسيطر عليها المستقبل. ويبقى الأهم من هذا كله، نجاح القوات في «شدشدة» بنيتها التنظيمية، مقابل ترهل الآخرين، وتفرّغ رئيسها لتوطيد علاقته المباشرة برجال الأعمال والمصرفيين ورؤساء المجالس البلدية والفعاليات المناطقية.

هكذا، بدا أن كل شيء يسير وفق المرسوم له… الى أن سقط الخبر ـــ الصاعقة على معراب: الحريري يلتقي فرنجية في باريس ويعرض مقايضة رئاسة الجمهورية برئاسة الحكومة.

بدا الحريري وكأنه يعيد جعجع إلى النقطة الصفر. لا إلى عام 2005 حين أخرج من السجن، ولا إلى عام 1994 حين زُجّ فيه، وإنما إلى أولى مهماته الحزبية عام 1978. هل يعلم الحريري ماذا يعني، لسياسي بشرّاوي، انتخاب زغرتاوي رئيساً؟ انتخاب سليمان فرنجية الجد رئيساً وفّر ثنائية مسيحية في السابق على مستوى الوطن، ولم تنكسر أحادية الزعامة الزغرتاوية شمالاً إلا بالمجزرة. يفكر «الحكيم» في كيف سيكون وضع جبران طوق وروي عيسى الخوري في بشري، وكيف سيكون الوضع في الكورة والبترون وعكار، قبل أن يتخيل آل حواط الذين يتكل عليهم في جبيل ينحرون الخراف احتفالاً بانتخاب «صديقهم» رئيساً، وحليفَيه المفترضَين، فريد هيكل الخازن ومنصور البون، وغيرهما يدبكون «على الأول» في الاحتفالات الكسروانية فرحاً بخلاصهم من الكأس الجعجعية المرّة. ويمكنه تخيل «أبو الياس» والكتائب يتفرعنون في المتن حيث علاقة النائب ابراهيم كنعان بفرنجية أهم من أوراق النوايا وأعمق. يتخيل ارتياح النائب ميشال فرعون في مقعده للتركيز على تفتيت المارد القواتيّ الذي خرج يطالبه بحصّة. يتخيل خسارته الحتمية لزحلة بحكم الترجمة الحتمية لكل التسويات فيها. يتخيّل اندثار كل رهاناته الجزينية. تطول قائمة الخسائر حتى يجد نفسه مضطراً إلى استشعار الكرسي الذي يجلس عليه!

المشروع السياسي العونيّ في أمان أما مشروع القوات فلن يبقى منه شيء

بالتأكيد أن نكسة معنوية كبيرة ستصيب العونيين في حال انتخاب اي كان، غير الجنرال، رئيساً. سيحزن كثيرون ويقولون إن أمل الإصلاح طار والبلد ما عاد يصلح للعيش. إلا أن تأثير كل ذلك لن يكون دراماتيكياً بالنسبة للتيار الوطني الحر. فالحضور السياسي للجنرال هو نفسه سواء كان رئيساً أم لا. لا بل سيزداد حرص حلفائه وجمهوره على تعزيز هذا الحضور بعد كل هذه التضحيات. وحجم تكتله سيبقى، في أقل تقدير، هو نفسه حجمه الحالي. ولا شك في أن «العهد الصديق» سيفيد العونيين في بعض الدوائر الانتخابية والتعيينات الإدارية والأمنية ومشاريع القوانين وغيرها أكثر بكثير من العهد غير الصديق الذي مر عليهم. أما في معراب فالوضع مختلف تماماً. الأمور، هنا، لا تتعلق بانفعال شخصي أو تأثر جعجع والمحيطين به بعدم انتخابه رئيساً، وإنما بتعرض كل مشروعه السياسي لصفعة يصعب تجاوزها. إعادة عقارب الساعة 37 عاماً ليست مزحة. المشروع السياسي العونيّ في أمان، أما المشروع السياسي القواتي، فلن يبقى منه شيء:

أولاً، يؤكد الحريري أنه يكاد يقيم لنواب كتلته، هادي حبيش وفريد مكاري ونقولا غصن، اعتباراً أكبر مما يقيمه لجعجع الذي اعتبر نفسه شريكاً بنسبة 51% في قيادة 14 آذار. والأداء الحريريّ بعيد انفجار السخط الجعجعي يوحي بلامبالاة هائلة واستعلاء يشبه استعلاء الأمراء السعوديين في التعامل مع حاشيتهم.

ثانياً، حسابات التوسع النيابي، شمالا وجبلاً وبقاعاً، باتت تتطلب إعادة نظر سريعة. كان جعجع يعتقد أن الحريري سيتنازل له عن نحو عشرين مقعداً نيابياً، يكاد الأخير يفعل المستحيل لإبقاء قانون الانتخاب الذي يتيح له الاستمرار في مصادرتها! بدا وكأن بالحريري يقول لحليفه إنه سيكون محظوظاً جداً إن بقيت له مقاعده الحالية.

ثالثاً، حلم قيادة المجتمع المسيحي سينتهي هو الآخر. من جهة، بمجرد نشر صورته الى جانب صورة فرنجية، ستستعيد الذاكرة كل ما حاول إلغاءه. ومن جهة أخرى، يعلم أن مجتمعه ينقسم تاريخياً بين الأحزاب والزعامات التقليدية التي سعى جاهداً لإنهاكها، معولاً على تفوق حزبه تنظيمياً ومالياً وإعلامياً. إنعاش زعامة فرنجية سيتيح لها استنهاض الزعامات المناطقية التي تمثل مجتمعة، في كل قضاء، بين 30 و50 في المئة رغم كل نفوذ الأحزاب وسطوتها. أما حزبه فسيجد نفسه في منافسة غير متكافئة أبداً مع حزب التيار الوطني الحر مع تفرغ جبران باسيل للتنظيم وتنقله الدؤوب بين الهيئات المناطقية والقطاعية في ظل اطمئنانه إلى حماية حلفائه لظهره سياسياً وإنمائياً وخدماتياً.

بالتالي، لم يبق شيء على البيدر المعرابي غير المال. الصورة واضحة: لا مبادئ سياسية تجمع أفرقاء «ثورة الأرز»، ولا شراكة في القيادة أو القرار، ولا دفع باتجاه تكريس الزعامة الجعجعية مسيحياً، ولا مكاسب تمثيلية، ولا حصة وزارية وازنة توفر إنماءً استثنائيا لمناطق نفوذ القوات. لا شيء من هذا كله؛ هناك المال والمال فقط.

الآن، لم يعد في وسع جعجع تقديم ولو مبررا واحدا يحول دون تبنيه ترشيح عون. لا يريد قلب الطاولة على حلفائه؟ هم يقلبونها عليه وأكثر. عون مرشح حزب الله؟ هم يتبنون فرنجية الذي تصفه الأبواق نفسها بمرشح الرئيس بشار الأسد. علماً أن الثمن الذي يقبضه الحريري لقلب الطاولة هو رئاسة الحكومة وصفحة جديدة مع النظام السوري تنسيه البطانيات، مع ما يستتبع عودته من مكاسب سلطوية صغيرة، فيما الثمن الذي سيقبضه جعجع للانقلاب على حليفه ومخالفة الأوامر الملكية والذهاب مع قوى 8 آذار إلى المجلس النيابي لانتخاب العماد عون هو:

أولاً، رد صاع الرئيس الحريري صاعين وإقفال الباب نهائياً أمام عودة الحريري فيتسنى له قيادة هذا الفريق السياسي دون مزاحمة من أحد، علماً أن الممولين والسفراء وغيرهم سيكونون مضطرين إلى التعامل معه كأمر واقع عاجلاً أم آجلاً بحكم حاجتهم إليه أكثر بكثير من حاجته إليهم. ويفترض بمعراب السؤال بجدية اليوم عن حاجتها للمال السعوديّ ورضى السفراء وغيره في ظل التصفية السياسية الكاملة. الأمر هنا أشبه بتضامن كثيرين مع جعجع طوال سنوات سجنه، مدركين أن تضامنهم لا يقدم أو يؤخر شيئاً.

ثانياً، التخلص من «كابوس فرنجية» وحماية ما يمكنه من حلمه السياسي. فعون رئيساً أهون لجعجع بكثير من فرنجية رئيساً. ومشاركته في إيصال عون يعني تصالحه أكثر فأكثر مع الرأي العام المسيحي، ودخوله بقوة على خط تشكيل اللوائح العونية في جبل لبنان في أي انتخابات مقبلة، وإنقاذ معاقله شمالاً من أي تغييرات طارئة حيث يقتصر الطموح العوني على مقعد نيابي للوزير باسيل.

ثالثاً، إثباته للمرة الأولى أنه يملك حرية المبادرة السياسية. فحتى حين كانت القوات اللبنانية تقول إنه ذهب إلى السجن عام 1994 بملء إرادته، كان كثيرون يشككون. وها هو اليوم على وشك الدخول في نفق أكثر ظلامية من سجن اليرزة، من دون أن ينبس بكلمة.

هذا كله نزر يسير من تداعيات المبادرة الحريرية بالنسبة لقوى 14 آذار وعلاقة أفرقائها ببعضهم بعضا، علماً أن تجاوز أفرقاء 8 آذار والتيار الوطني الحر لتداعيات الفخ الحريريّ ــــ اذا كان ثمة فخ ــــ لا يحتاج أكثر من عشاء مصارحة جديّ على مائدة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله رغم كل ما يكتب ويشاع. أما تداعيات المبادرة على الفريق الحريريّ ونظرة رأيهم العام إليهم، فشأن آخر يستحيل تجاوزه أو معالجته.