منذ وصول رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية إلى باريس، تركّزت الأنظار والاهتمامات على زيارته للعاصمة الفرنسية، التي جاءت بعد ايام من الاتصال الشهير الذي أجراه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، وتناولا فيه حصراً اوضاع لبنان واستحقاقاته، في اطار التعاون القائم بين البلدين إزاء هذا الملف.
إنقسمت الاوساط السياسية اللبنانية في النظرة إلى زيارة فرنجية لباريس، وجاءت قراءاتها إزاءها متناقضة، وتعكس طبيعة الموقف الداخلي القائم حيال ترشيح الرجل لرئاسة الجمهورية، والذي كان «الثنائي الشيعي» وحلفاؤه أعلنوا دعمه، فيما فريق المعارضة او ثلاثي «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» وحزب «الكتائب اللبناينة» يرفض هذا الترشيح كل من وجهة نظره الخاصة، وينضمّ إلى هذا الثلاثي من حين إلى آخر رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، الذي عُرف عنه انّه غالباً ما ينتظر على «التلة» ايام الاستحقاقات الكبرى، فللرجل نظرته وأسبابه لهذا الرفض المرن الذي لا يراه البعض قاطعاً او متيناً، إذ انّه غالباً ما يرغب في ان يكون «بيضة القبّان» في كل استحقاق إذا تسنّى له ذلك، مع حرصه على العلاقة التي تربطه برئيس المجلس النيابي نبيه بري، والتنسيق المباشر وغير المباشر القائم بينهما منذ اشهر حيال الاستحقاق الرئاسي.
اما الفريق «الممانع» لوصول فرنجية إلى سدّة الرئاسة، فإنّه يشيع في اوساطه وبعض ماكيناته الاعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي، انّ باريس دعت رئيس تيار «المردة» لزيارتها لكي تبلغ اليه «فيتو» المملكة العربية السعودية عليه، ومعارضة الولايات المتحدة الاميركية لترشيحه، خلافاً لوجهة نظر الادارة الفرنسية المؤيّدة له. مع العلم انّ لا الرياض اعلنت مثل هذا «الفيتو» لا مباشرة ولا مداورة، فيما واشنطن عبّرت وتعبّر امام زوارها، وعلى لسان موفديها إلى المنطقة وآخرهم مساعدة وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الادنى باربارا ليف، انّها ستتعامل مع اي رئيس لبناني يُنتخب، وأن ليس لديها اي مرشحين ولا تدعم اي مرشح.
اما الفريق المؤيّد لترشيح فرنجية، فقد وجد في زيارته لباريس مؤشراً إلى انّ الاستحقاق الرئاسي ربما يكون قد دخل مراحله الاخيرة، من حيث البحث في الضمانات المتبادلة المطلوبة والتي ستحكم العهد الرئاسي اللبناني الجديد. وهذه الضمانات كانت ولا تزال موضوع بحث بين الرياض وباريس وواشنطن إلى جانب القاهرة والدوحة، في إطار ما يسمّى مجموعة الخمس التي اجتمعت في باريس قبل اسابيع وبحثت في الملف اللبناني، قبل ان يجول سفراؤها في بيروت على المسؤولين والقيادات السياسية، ناقلين نتائج الاجتماع الباريسي ورغبة المشاركين فيه ان يتمّ انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية في اسرع وقت ممكن وتشكيل حكومة فاعلة تنفّذ الاصلاحات المطلوبة داخلياً وعربياً ودولياً، لإنقاذ لبنان وتمكينه من استعادة الثقة الخارجية، والحصول على الدعم العربي والدولي الذي يُخرجه من الهاوية التي سقط فيها.
ويرى متابعون للاستحقاق الرئاسي، انّ قول البعض انّ باريس دعت فرنجية لزيارتها بغية ابلاغه انّها «لم تفلح» في إقناع شركائها السعوديين والاميركيين بتأييد انتخابه هو قول غير منطقي. إذ انّ امراً كهذا لو انّه حاصل فعلاً لكان في الإمكان إحاطة فرنجية به عبر اتصال هاتفي او عبر السفيرة الفرنسية آن غريو، او حتى عبر صديق مشترك، وما من داعٍ في هذه الحال لأن يسافر الرجل إلى العاصمة الفرنسية لهذا الغرض.
وفي رأي هؤلاء المتابعين الذين بينهم من هو لصيق بالعاملين على انجاز الاستحقاق الرئاسي، انّ زيارة فرنجية الباريسية والتي ستدوم اياماً، تكتسب اهمية كبيرة. إذ يُتوقع ان تكون له لقاءات عدة مع الجانب الفرنسي وغيره، لأنّ البحث في الملف الرئاسي دخل في مرحلة الضمانات والترتيبات المطلوبة من جانب الرئيس الجديد، وكذلك من جانب الآخرين الذين يرون في وصوله إلى السدّة الرئاسية ما يلبّي تطلعات الجميع، سواء على المستوى اللبناني الداخلي وملفاته المعقّدة او على المستوى العربي وما تطلبه العواصم العربية من ترتيبات وضمانات على الرئيس العتيد ان يقدّمها لها، وفي مقدّم هذه العواصم الرياض ومن خلفها بقية العواصم الخليجية، وهذه الضمانات ترتبط بنحو او بآخر بروحية الاتفاق السعودي ـ الايراني على تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران، علماً انّ طرح هذه الضمانات كان سبق «اتفاق بكين»، وانّ رئيس تيار «المردة» ردّ على اسئلة طالبيها عبر اكثر من قناة ديبلوماسية عربية واجنبية بكل حرّية وبعيداً من أي موانع او قيود او شروط.
وأبرز هذه الضمانات هي التي تطلبها المملكة العربية السعودية. إذ انّها تريد ان يكون الرئيس العتيد ضامناً للضمانات التي تطلبها من طهران وحلفائها، وهي حصلت او ستحصل عليها في نطاق «اتفاق بكين»، من اليمن إلى العراق وسوريا وصولاً إلى لبنان. علماً انّ فرنجية عبّر عن بعض هذه الضمانات قبل ذلك الاتفاق من على منبر بكركي قبل اسابيع، عندما اكّد التمسك بـ»اتفاق الطائف» نصاً وروحاً وبعروبة لبنان وعلاقاته العربية وخصوصاً مع المملكة العربية السعودية، مشيراً إلى ما في إمكانه الحصول عليه من دمشق الذي تربطه بها علاقة متينة جداً على مستوى ترسيم الحدود البحرية والبرية وإعادة النازحين السوريين، كذلك ما يمكن ان يحصل عليه من «حزب الله» على مستوى الاستراتيجية الدفاعية التي تعالج موضوع سلاح المقاومة الذي يشكو منه أفرقاء سياسيون لبنانيون.
ويقول أحد السياسيين في هذا السياق، انّ طرفي «اتفاق بكين» لم يدخلا بعد مرحلة تبادل «العطاءات» من خارج الاتفاق، والتي تتصل باتفاقهما على معالجة الأزمات في المنطقة العربية، وذلك في انتظار التنفيذ العملي لبنوده ميدانياً، وهذا ما يمنح حلفاءهما الآن فترة من الوقت الضائع يحاولون إمرارها بإثارة ملفات من هنا او هناك، بعضها يتصل بالاستحقاقات الماثلة والبعض الآخر يتصل بمتممات الاتفاق في حدّ ذاته، على صعيد نفوذ طرفيه في الساحتين الاقليمية والدولية، ذلك انّ هذا الاتفاق سيرسي عملياً نظاماً اقليمياً جديداً يرعاه طرفاه كدولتين كبيرتين وفاعلتين.
ولذلك، فإنّ ما يشهده الداخل اللبناني في هذه الاثناء، هو انّ البعض ينصرف إلى «رفع سعره»، اي رفع سقف مطالبه من العهد الآتي، وربما سيستمر الأفرقاء «الممانعون» لانتخاب فرنجية على وتيرتهم التصعيدية إلى ربع الساعة الأخير من فجر يوم الانتخاب الرئاسي. في حين انّ «اتفاق بكين» حوّل المنطقة بحراً هائجاً سياسياً، فيما لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقولة شهيرة يقول فيها: «في البحر الهائج اذا لم تعرف اين تقف فإنك ستغرق». فالرياض الآن واياً كان العهد الرئاسي الجديد، تريد ان ترتقي في العلاقات التاريخية التي تربطها بلبنان، كما بقية الدول العربية، بما ينسجم مع رؤية «المملكة 2030» التي تفرد لعلاقات المملكة بالدول العربية خصوصاً والاجنبية عموماً، حيزاً يدعمها، لأنّها ترتقي بالمملكة إلى ان تكون قوة مالية واقتصادية اقليمية وعالمية كبرى، وهذا ما يفرض ان تكون كل هذه الانواع من العلاقات مستمرة ومزدهرة ومنتجة، لما فيه مصلحة المملكة والدول الشقيقة لها والصديقة.
اما الذين يسألون عن سبب تأخير فرنجية اعلان ترشيحه، فإنّ المطلعين على حراكه يؤكّدون رداً على هذا السؤال، انّ ما اعلنه من بكركي عندما زار وزوجته السيدة ريما فرنجية البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، كان العناوين الأساسية لبرنامجه الرئاسي، اما الترشيح فسيُعلن قبيل جلسة الانتخاب التي لم تعد ببعيدة.