ليس أدلّ على سقوط كلّ المحاولات لملء الشغور الرئاسي ما يشعر به مختلف الأطراف من إحراج في مخاطبة عقول محازبيهم والرأي العام على وقع فصول الفشل التي توالت في فيلم مكسيكي طويل، سيليه مع مطلع العام فيلم آخر يبحث عن بديل مغمور لآخر ضحايا رباعية المرشحين. فتداعي الأحلاف التقليدية على ضفتي الصراع لا يوحي بأنّ المهمة سهلة. فلماذا؟
على الرغم من مسلسل المواقف والتوصيفات التي تحظى بها مبادرة زعيم المستقبل سعد الحريري بتسمية زعيم تيار المردة سليمان فرنجية والتي راوحت بين نعيها كلّياً واعتبارها من الماضي، وإصرار البعض على أنها ما زالت قائمة تنتظر ظروفاً مؤاتية لتطلّ برأسها من جديد ولتكون مادة لمفاوضات مقبلة لا بدّ أن تعود الى التداول في وقت قريب.
لكنّ كلّ ذلك لا يغني ولا يخفي الكثير من الحقائق المتداولة على نطاق محصور وضيق والتي تتحدّث عن سيناريوهات جديدة لا بدّ أن يعود النقاش حولها بعد عطلتَي عيدَي الميلاد ورأس السنة.
قلائل يعترفون أنّ التجربة الأخيرة كانت قابلة للحياة لو أنّ القرار في ملء الشغور وتسهيل المراحل الدستورية التي يجب سلوكها قرار لبناني بحت. فقد اعتقد اللبنانيون لوهلة من الزمن أنّ مجرّد تفاهم أقطاب 8 و14 آذار ينهي الإستحقاق ويضع العربة خلف الحصان لتنطلق عملية ترميم مؤسسات الدولة واستعادة حيويتها على مختلف المستويات الدستورية والسياسية بما لها من انعكاسات على مختلف أوجه الحياة الإقتصادية والمالية والإدارية في البلد.
راهن البعض على عنصر المفاجأة الذي تسبّبت به المبادرة – الصاعقة للحريري تحت عنوان إختيار الرئيس من فريق والحكومة من فريق آخر ليكتشفوا لاحقاً أنّ هذه التحالفات بين الفريقين كرتونية ومعرَّضة للإهتزاز عند أوّل تجربة جدّية تقلّص فيها هامش المناورة الى الحدود القصوى.
فاهتزت التركيبتان وكأنّ زلزالاً أصابهما فبان الأبيض الخفيف منها وظهر الأسود القاني فيها في أيام قليلة، ولجأ رموزُ الطرفين من أهل البيت الواحد الى نشر الغسيل الوسخ على كلّ المساحات السياسية والحزبية وصولاً الى صفحات وسائل التواصل الإجتماعي، وقال الحلفاءُ كلاماً كبيراً بحقّ بعضهم بعضاً لم يسبقهم اليه أحدٌ من ألدّ الخصوم.
وقياساً على القاعدة التي تقول إنّ مَن يستطيع أن يؤذي أيّ إنسان أكثر بكثير من غيره هو مَن يعرفك جيّداً، ظهرت التباينات بين أبناء الصف الواحد لتبرّر جدلاً قائماً بين الطرفين أستُخدمت فيه مختلف أنواع الأسلحة السياسية والإعلامية وصولاً الى ما هو غير أخلاقي في فترة من الفترات إزدهرت فيها لغة التخوين والتجريم، فتعطلت كلّ المساعي التي بُذلت لعبور الإستحقاق الرئاسي وباتت عملية التعطيل مباهاة وإدعاءً بالقوة التي لا تُقهر.
فضاعت كلّ الفرص الذهبية وتجاوز الجميع المهل الدستورية غير عابئين بشغور الموقع الأوّل في الدولة ليفتحوا جدلاً بيزنطياً نتيجة الخلافات في تفسير الدستور الذي بات أرجوحة بين وجهات النظر المختلفة، ونظريات لكبار رجال القانون والدستور بُنيت على قاعدة غبّ الطلب.
ليس في استعراض كلّ ما سبق سوى الإشارة الى المأزق الذي بلغه الجميع، فتداعيات ترشيح فرنجية ستؤثر خلال المراحل المقبلة في تصرّفات الجميع خصوصاً أنها أقامت أعرافاً لا يمكن تجاهلها بعد اليوم.
فسقوطه أسقط معادلة الرباعي الماروني بعدما إستحال وصول أيّ منهم الى قصر بعبدا وفتح الباب واسعاً أمام البحث عن بديل من خارجها بوجود لوائح اسمية مطروحة منذ بدء الشغور الرئاسي وتعرّض أصحابها لكلّ أشكال التجنّي والتهشيم.
ويطرح الواقع الجديد امام المعنيين بالإستحقاق سلسلة من الأسئلة المشروعة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: هل يمكن إعادة البحث في هذه الأسماء؟ أم أنّ هناك أخرى قد تظهر بين ليلة وضحاها وهي في معظمها من الأسماء المغمورة التي تراقب عن بعد ما يجري؟
ثمّة مَن يتداول في الساعات الأخيرة بأسماء جديدة من هذه الفئة كانت وما زالت تراهن على فشل الطاقم السياسي الذي يدير الإستحقاق ويتعاطى به على قاعدة من الشخصانية التي لا يمكن أن تنتج حلّاً ما لم تفرضه إرادة خارجية قويّة ضاعت منذ أن غابت الوصاية التي كانت تدير البلد بإشارات من خلف الحدود كانت تحسم المراحل وتسمّي الرؤساء والوزراء وتشكّل اللوائح النيابية.
وبناءً على ما تقدّم يبقى على متتبّعي وقائع الإستحقاق الإنتظار لبعض الوقت لتظهر نتائج المساعي الجارية خلف الكواليس المقفلة في لبنان والخارج ليتبيّن الخيط الأبيض من الأسود في سيناريو سيُحبَك في غرف مظلمة لا يدخلها لبنانيون كثر.
والى أن تأتي تفاهمات الخارج بمخرج لقادة الداخل الذين سيكونون أمام خيارين لا ثالث لهما: فهل سيناقشون؟ أم سيلتزمون التعليمات متى آن أوانها؟ وعلى خلفية ترجيح الخيار الثاني على اللبنانيين أن يقتنعوا أنهم لم يتأهّلوا بعد الى مرحلة الرشد التي تؤهّلهم لإدارة شؤون البلد وهذا ما سيظهر جلياً في وقت قد لا يكون بعيداً.