ربّ قائل إنّ سليمان فرنجية لم يكن بحاجة الى خوض معركة انتخابية بوجه ميشال عون، ولو بورقة بيضاء، كي يثبت أنّه دخل نادي الموارنة الذهبي. هو الخطة «ب» حتى لو رفض «الجنرال» ميشال عون الاعتراف بوجودها.
لو لم يفعل فرنجية ما فعله، لما كان هو، ولما انسجم مع نفسه. مع الكبرياء الزغرتاوي. مع صلابة خياراته، وهو من قلّة نادرة تتصرّف على سجيتها المتخففة من أثقال التعابير المنمّقة والشعارات البراقة، حتى لو ترك للانفعالية أن تأخذ مداها على حساب القواعد البديهية في مخاطبة الرأي العام والتي تراعي عادة المزاج العام وحساسيته.
ولكن فرنجية لم يكن يوماً من هذه القماشة ولن يصير أبداً.
قد يُقال إنّ الرجل زعيم مناطقي، لم يتمكن من مغادرة شماله، ولم يقم أصلاً بمجهود كافٍ كي يتمدّد خارجه، مع أنّ لمؤيديه رأياً آخر يحمّلون فيه حساسية العونيين مسؤولية وقف الاندفاعة في عمق الجبل، والتخليّ في بعض المرات عن مواقع نيابية.
قد يُوصَف بأنه وريثُ إقطاع سياسي يتناقل الزعامة أباً عن جد، مع أنه يؤمن أنّ الشرعية تُعطى من الناس وحدهم. ولم يستفِد من فرصة إنشائه للحزب كي ينفض عنه غبار الإقطاعية المناطقية أو ليقدّم مشروعاً سياسياً يمنحه هوية خاصة يعبر على متنه الخارطة المسيحية، ويخترق جبل لبنان، لتثبيت زعامته المسيحية.
قد يُنتقد أيضاً لأنه قد يفضّل ممارسته هواياته البيئية، الصيد، الغطس، والتصوير، على تكريس وقته للعمل السياسي، بعكس زعماء أبناء طائفته الذين يمتهنون السياسة 24 على 24. وها هو يتحضّر لإلقاء عباءة النيابة فوق كتفَيْ نجله طوني للتخفف من الأعباء اليومية.
مع أنّ للرجل نظرته الخاصة التي تحمّسه على إعطاء «إنسانيته» حقها ووقتها، من دون السماح لطمع السلطة في السيطرة عليه. فلا ضير مثلاً من الذهاب في رحلة صيد في عزّ الزخم الرئاسي، لأنه «حين يُكتب التفاهم فلن تقدّم أو تؤخر المشاركة فيه».
ولكن ميزة فرنجية في غير ذلك كله. في سيرة حياة طفل دفع باكراً ثمن انتمائه «بالفطرة» الى خطّ سياسي عمره عقود من الزمن. ثمن يرفعه محبو الرجل الى مرتبة «القداسة»، فيتحدّثون عن عناية إلهية ترافق زعيمهم وتحميه في خطواته.
سيرة «يتيم» لم يعرف الحقد أو الثأر، و«بيك» أغدِقت عليه المواقع والمناصب منذ نعومة أظافره، فكان وزيراً في السادسة والعشرين من عمره بعدما بايعه جدّه سليمان فرنجية الزعامة إثر اغتيال والده، ونائباً في السابعة والعشرين. ولكن جشع السلطة لم يتملّكه يوماً. (رفض مثلاً المشاركة في حكومة ما بعد «الدوحة» برغم عرضها عليه).
كرّت سبحة التوزير والنيابة لـ «ابن الخط» وصديق بشار الأسد و «نور عين» السيد حسن نصرالله، إلى أن أخذ اغتيال رفيق الحريري منه كلّ مكتسبات السلطة وآخرها وزارة الداخلية. فعاد إلى بنشعي زعيماً مجرّداً من أي لقب رسمي.
في تلك اللحظة، تجلّت ميزة ابن زغرتا في أبهى حللها. هو ليس من طينة الرجال الذين يتخلّون عن حلفائهم في أوقات الانكسار، ولا ممن يستسلمون لـ «قوانين الأقوياء». أجبر زعيم «المردة» على ترك وجاهة السلطة، لكنّ جذور الزعامة في نفوس محبيه، كانت أقوى وأبقى.
قد يؤخذ عليه الكثير، ولكن لا يمكن أن يُرشَق بحجارة الخروج عن ثوابته، أو القفز على حبال التناقضات، أو الطعن بصديق أو حليف.
لا يمكن لأحد أنّ يقلل من صلابة علاقة ناسه به، أو من صدق خياراته الوطنية والعربية. صحيح أنّ زعامة ميشال عون انطلقت من كونه ابن المؤسسة الأحبّ الى قلب المسيحيين، وقوة سمير جعجع تأتي من تنظيمه الحديديّ ومكانة أمين الجميل من وراثته حزب الكتائب… لكن لموقع سليمان فرنجية توصيف مختلف.
هو الآتي من الأطراف. ابن زغرتا والنشأة طرابلسية. يدرك معنى العيش المشترك ممارسة لا قولاً. واثق من نفسه ومن وجوده في وجدان المسيحيين حتى لو كان بعيداً في الجغرافيا وغير عابر للمناطق..
سينزل الرجل إلى ساحة النجمة ليس كمرشح منافس، وإنما كماروني قادر على مخاطبة المسيحي والشيعي والدرزي والسني وطمأنتهم. وها هو سعد الحريري الآتي من خندق الخصومة يحرص على الوقوف على خاطره.
في العام 2004 حضر اسمه كمرشح بارز، وفي العام 2015 اعتقد أنّها صارت منتهية لمصلحته. الآن، صار مقتنعاً أنّ الرئاسة في «الثالثة لن تفلت من يديه».
الورقة البيضاء.. بطاقة حمراء
قبل ثمان وأربعين ساعة من انتخابات رئاسة الجمهورية، اختار سليمان فرنجية أن يحوّل ترشيحه الى ورقة بيضاء. فلا هو انسحاب كامل من المعركة ولا استمرار للمنازلة. هي منزلة بين الاثنتين بالشراكة الكاملة مع الرئيس نبيه بري، قام بها من باب تظهير موجة الاعتراض التي تشكلت بوجه ترشيح رئيس «تكتل التغيير والاصلاح»، كي لا يبدو انتخابه اجماعاً وطنياً، لا سيما أنّ أصوات معظم الكتل صارت محسومة لمصلحة الأخير وفق ما أظهرته «بوانتاجات» الساعات الأخيرة. ولهذا أراد تذكير العهد الجديد بأنّ ثمة قوى سياسية معترضة ولا بدّ من الوقوف عند رأيها.
كما أنّها تأتي من باب تحرير الحلفاء من إحراج قد يواجهونه مع العهد الجديد في حال استمروا في دعمهم للقطب الزغرتاوي، وقد تقفل أمامهم طريق المشاركة في حكومة سعد الحريري، مع العلم أنّ هذه المسألة بالذات لا يبدو أنّ «المرديين» يولونها أية أهمية.