قبل مدة قصيرة وفي بلدة شمالية كانت ثمة مأدبة عشاء دعت اليها احدى الفاعليات ، وقد تحلّق حول الطاولة قطب من “تيار المردة” وقياديان من “حزب الله” في الشمال. وعلى مدى اكثر من ساعتين لم يتوقف ذلك القطب عن توجيه سهام الانتقاد الموجعة الى كل من “التيار الوطني الحر” و“حزب الله” نفسه انطلاقا من ان كليهما يحول دون وصول زعيم “المردة” النائب سليمان فرنجية الى سدة الرئاسة الاولى الشاغرة منذ ما يقرب من عامين ويضيّعان عليه فرصة ذهبية أتته صاغرة من غامض علم الله.
اللافت بحسب ما ذكره احد المدعوين الى هذا العشاء امران:
الاول ، درجة صبر مسؤولَي الحزب على“عصبية” الضيف الاخر واعتصامهما بالهدوء وتمسكهما بمقولة:”ان فرنجية في عين والعماد ميشال عون في العين الاخرى” ، و“إن الله مع الصابرين” ، مما يعني انهما لم يتفاجآ بسلوكه.
والثاني ، الاستنتاج الذي اطلقه قطب “المردة” في ختام الكلام وفحواه : “ان الامور من الان والى الاشهر الثلاثة المقبلة لن تظل تنسج على المنوال اياه ، بل اننا موعودون بتحولات وتغيرات جذرية“.
لم يشأ القطب اياه الافصاح عن فحوى هذه التحولات والتغيرات التي هي في ظهر الغيب ، غير ان ثمة في الوسط السياسي وفي بعض الدوائر القريبة من “حزب الله” تحليلا يقول بان هذا الايمان بقرب بروز تحوّل ما ينطلق من نظرية تفعل فعلها في اوساط معنية بالانتخابات الرئاسية ، ينهض على اسس ومعطيات ابرزها:
– ان ثمة رأياً تتبناه بعض الاوساط يقوم على نظرية ان ساعة الانتخابات الرئاسية اللبنانية آتية ولا ريب، وان موعدها قبيل موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية في تشرين الثاني المقبل. وهذا يعني ان المسألة مسألة صبر ساعة ، وهو مبني على استنتاجات منطقية وربط وقائع وعلى معطيات ومعلومات في آن واحد.
– ان هناك ضغوطا مباشرة وغير مباشرة تمارس من اكثر من جهة على “حزب الله” لكي يتراجع عن التزامه المطلق ترشيح العماد عون للرئاسة لمصلحة حليفه الاخر فرنجية لئلا يخسر مع محوره فرصة ان يكون الرئيس المقبل من فريق 8 اذار. ولم يعد خافيا ان رئيس مجلس النواب نبيه بري هو المتصدر الاول لهذا الخيار وصاحب هذه النظرية التي اوردها مرارا تصريحا وتسريبا خلال الاسبوعين الماضيين.
– ان الحزب سبق له عبر رسائل وجهها امينه العام السيد حسن نصرالله الى حليفيه المرشحين للرئاسة الاولى ان تمنى فيها عليهما الالتزام لمقتضيات التهدئة حيال بعضهما البعض والكف عن تبادل اية حملات اعلامية وسياسية بانتظار الفرج الآتي.
ولكن ثمة اشكالية لدى الحزب لجهة ضبط هذه المسألة والتزام المعنيين التهدئة ، خصوصا ان فرنجية كان المبادر الى افتعال سجال مع زعيم “التيار البرتقالي” في الجلسة ما قبل الاخيرة للحوار الوطني لم يكن له مبرر وفق بعض القراءات سوى ان فرنجية اراد من خلال هذا الفعل الايحاء لمن يعنيه الامر بانه صار قاب قوسين او ادنى من دائرة “التمرد” على التوجهات السابقة ، وانه بصدد فتح ابواب مواجهة اعلامية ، وانه ماضٍ قدما الى النهاية رغم ان الطرف الاخر استمر في سياسة الصمت والمهادنة والتعالي.
ثمة من يرى ان فرنجية يسلك سلوكا كان سيسلكه اي شخص في مكانه ، فهو يشعر بان رياح كل الظروف والمعطيات الداخلية والخارجية هي لمصلحة اشرعة سفينته ولمصلحة انتقال مضمون من بنشعي الى قصر بعبدا، وان هذه الفرصة الذهبية محدودة زمنيا ، وهو في الوقت عينه يبعث برسالة احتجاج وضغط صريحة الى حليفه “حزب الله” عنوانها العريض : القرار عندكم ولا تعتمدوا على فضيلة صبري الى ما لا نهاية. ولم يعد خافيا للمراقبين ان فرنجية يزداد توترا كلما مضى الوقت ولم تصله رسالة ينتظر وصولها من صوب الضاحية الجنوبية الى درجة انه اضطر في الايام القليلة الماضية ، وربما للمرة الاولى، الى ان يلوّح بانه صار اقرب ما يكون الى لحظة التخلي عن التزاماته القديمة المعروفة للحزب ، وانه سينزل الى جلسة انتخاب الرئيس في ساحة النجمة اذا ما ازداد الضغط عليه بذريعة نزول “العونيين” الى الشارع بمشاركة من “القواتيين” وهو امر يراه مدخلا لعزله واظهاره ضعيفا في الشارع المسيحي.
وعليه فان السؤال المطروح حيال ذلك هو: هل من شأن حراك الاحتجاج العنيف الذي شرع به فرنجية ان يفضي الى مستجد عملي ما يبدّل في عناصر المسرح السياسي المعروفة والمألوفة ؟ واستطرادا ماذا عن موقف الحزب من هذا التحول الذي يلوح زعيم “المردة” بانه قد يقدم عليه والذي من شأنه ان يقلب المعادلات التي تكرست بعد تبني الرئيس سعد الحريري ترشيح فرنجية للرئاسة الاولى رأسا على عقب مما قد يفضي الى خسران الحزب ورقة الرئاسة التي امسك بها طويلا؟
ليس جديدا القول ان موقف الحزب من الاستحقاق الرئاسي صار واضحا وثابتا ، وقد كرره امينه العام واكد فيه ان عون مرشحه الجدي والدائم حتى قطع النفس لاسباب صدرها اخلاقي وباطنها حسابات اعمق تتصل بعلاقته بالساحة المسيحية التي يصعب توافرها بغير تمسكه بعروة التحالف الوثقى مع “التيار البرتقالي“. لكن ذلك على بداهته وبلاغته لا يعني اطلاقا ان الحزب لا يأخذ في الحسبان المعطيات المستجدة في ملف الاستحقاق الرئاسي من مثل “تظاهرة حليفه فرنجية المدوية ونفاد معين صبره امام اغراءات بعض الاقطاب المحليين واغواءات المعطيات الخارجية“.
ان “حزب الله” ما زال يراهن ضمنا على ان فرنجية قد لا يذهب بعيدا في لعبة تقديم نفسه على انه مرشح مستقل ، فساعتئذ سيصير بلا فائدة كبرى للذين اختاروه مرشحا من الفريق الاخر لان اختيارهم له تم على اساس كونه قطباً قديماً من اقطاب 8 اذار وليس لاي اعتبار آخر. أضف ان الامور اذا ما صارت واجبة الحسم والقرار الحازم، فان كثيرين سيعيدون النظر في خياراتهم ومواقفهم المعلنة. وفي كل ذلك سيظل الحزب حريصا كل الحرص على علاقته التاريخية بفرنجية.