الأذكياء والأغبياء فريسة سهلة
نظن أنفسنا في أمان من الإحتيال والمحتالين، ومن الخداع والمخادعين، لكن “لو عرف ربّ البيت متى يأتي السارق لما ترك بيته”. فالناس، حتى أكثرهم ذكاء، تعرضوا أو هم معرضون الى “ضرب إحتيال” قد يكون يُركّب الآن. فماذا في هذا النوع من “الضروب الحيّة” التي كثرت في هذه الأيام الصعبة؟
يعرف المخادعون أن الإحتيال يسهل بين من يستعجلون الأمل. واليوم، في زحمة مشاكلنا، نستعجل كلنا الأمل. فهل جميعنا معرّضون؟ هناك من يهز الآن رأسه صعوداً معتبراً نفسه أكثر ذكاء من سواه. لكن وقع أحد هؤلاء، قبل مدة زمنية، في الفخّ في الطبقة العلوية في أحد مستشفيات بيروت، حين كان ينتظر انتهاء عملية يخضع لها شقيقه في القلب. كان يجلس في ردهة الإنتظار قلقاً وسمع أحدهم، يتكلم بلهجة بقاعية، مع زوجته هاتفياً. كان يبكي ويقول لها: ولدنا سيموت. نحن بحاجة الى مئتي ألف ليرة كلفة صورة مستعجلة الآن. أخبري والدتك هذا. أخبري أهلك أن ولدنا ينتظر في العناية الفائقة. أكاد أجنّ. سنفقد ولدنا… وحين سمع “الذكي” (صاحب القلب) كل هذا الأسى نهض من مكانه وأعطاه المبلغ. ركع الرجل على قدميه وراح يبكي. وهنا طلب الذكي رقم هاتف الرجل لسؤاله لاحقاً إذا كان يحتاج الى شيء، فاضطر المحتال الى إعطائه الرقم الصحيح ليدق له الذكي ويسجل رقمه. وبهذا قبض المحتال وحصل الذكي على رقم من احتال عليه. لاحقاً، حاول الإتصال لسؤاله عن ولده فأجابه وأنكر معرفته به. وحينها أيقن أنه وقع ضحية إحتيال. هنا نتذكر قول الكاتب ألبير كامو في “أن المخادع ذئب يبكي تحت أقدام الراعي”.
فلنذهب الى النقابة العامة لسائقي السيارات العمومية في لبنان حيث يحذّر النقيب مروان فياض بشدة من منتحل صفة وأرقام هواتف وفعل إحتيال يتكرر تحت عين الشمس. فماذا في تفاصيل ما تعرض له السائقون العموميون في بيروت في الأسبوعين الماضيين؟
يُخبر فياض عن شخص يقول أن اسمه الدكتور قزي دأب على الإتصال بالسائقين مدعياً أنه مغترب سيمكث في البلد عشرة أيام ويحتاج الى سائق يرافقه، ويطلب من السائق، أن يرسل له بطاقات شحن خلوية تكفيه مدة عشرة أيام على أن يعطيه المبلغ حين يلتقي به مساء. ويُحدد له المكان، بالقرب من “سويت أوتيل” في جل الديب. والسائقون، كما تعلمون، يسارعون الى تلبية طلب هذا المغترب الذي تفوح منه رائحة الـ “فريش ماني” فيرسلون له بطاقات التشريج عبر الواتساب. وحين يصلون الى المكان لا يجدون إلا الصدى. المحتال المدعو دكتور قزي يتصل عبر رقمين أحدهما دولي وهو 0014124605699 والآخر لبناني هو 76089384. ويروي فياض أن “أحد “الشوفيرية” (السائقين) وهو من زحلة أرسل له 12 بطاقة تشريج وأن سائقاً آخر أرسل إليه بطاقات بقيمة 300 ألف ليرة. وكرّت السبحة. لذا عمدنا كنقابة الى إخبار أمن الدولة والمخابرات. ولهجة اللبناني، لمن يسأل، لبنانية.
ضروب الإحتيال لا تنتهي أما من “أكلوا الضرب” فيمتنعون بغالبيتهم عن تقديم شكاوى في الموضوع معللين “بلا وجع رأس”! وهذا إيذان بأن الكثيرين لا يثقون بقدرة أجهزة الدولة على حمايتهم.
في الإحتيال ذكاء. وهناك مقولة فيها “أن الوسيلة الحقيقية كي يُخدع المرء هي أن يعتقد أنه أذكى من الآخرين”. والمحتال يعرف ذلك فيُقنع “آكل الضرب” أنه أذكى منه متحيناً فرصة الإنقضاض عليه.
هناك من يوهمون لبنانيين بشراء منازل في تركيا. ولبنانيون كثر أكلوا الضرب. باعة الزيت الحلو الممتاز ينغلون هم أيضاً في هذه الفترة بحجة بيع التنكة بسعرٍ أقل من سعرها في السوق. أحد الباعة أتى الى مبنى في إحدى مناطق المتن الشمالي ونادى على الأهالي لتذوق أجود الزيت الحلو بسعر يقل عن 300 ألف ليرة للتنكة. أبٌ يعرف “طعم فمه” ويظن نفسه أذكى الأذكياء طلب من البائع أن يضع له قليلاً من الزيت في فنجان ليتذوقه. فعل. والطعم أتى بالفعل ممتازاً. فطلب من البائع تنكة و”شارطه” على السعر 275 ألف ليرة. وبعد كثير من الأخذ والرد كان له ما أراد. أنزل التنكة مباشرة الى البيت. الى مطبخ الست. وغادر. وحين قرر رب البيت تفريغ التنكة وجد زيت سيارات بلون أسود قاتم مستعمل وملغوم بالمياه. أكل الرجل الضرب. وهناك من أكل الضرب نفسه في الأشرفية قبل أعوام بطريقة مشابهة، فتذوق الزيت المعروض عليه وأثنى على جودته. فاصَل على السعر ونجح في تخفيض سعر التنكة، وعندما أفرغها فوجئ أن ربعها زيت طاف على ثلاثة أرباع من الماء.
الإحتيال أنواع وأشكال وأحجام. هناك لصوص دوليون ومحليون كانوا ينشطون على مواقع الإنترنت لسرقة المال من البطاقات الإئتمانية. عدد هؤلاء تضاءل كثيراً ليس لأنهم إكتفوا بما جنته أيديهم، بل لأن المصارف اللبنانية وضعت سقوفاً للسحب الإلكتروني وما عاد بقدرة اللصوص سرقة ما يحلو لهم. نقول لمصارفنا الكريمة شكراً؟ سارقون يقفون بالمرصاد أمام سارقين!
في المقابل، هناك فصول إحتيال كثيرة وعمليات إبتزاز تحصل على مواقع التواصل الإجتماعي. قوى الأمن الداخلي زودت “نداء الوطن” بآخر ما لديها من نسب عن ارتفاع جرائم الابتزاز الجنسي، خلال فترة التعبئة العامة التي حصلت في لبنان أخيراً فتبين لها “ارتفاعها بنسبة 184 في المئة. وأن المرتكبين والمبتزين من جنسيات مختلفة لكن غالبيتهم من الجنسيتين اللبنانية والسورية. والنساء هن أكثر عرضة للوقوع ضحية هذه الجرائم. والمواطنون الذين يواجهون هذه التهديدات هم من مختلف الفئات العمرية. وما لفت قوى الأمن الداخلي عدم رغبة الجهة المدعية بمتابعة الشكوى وعدم تقديمها أي أدلة مرتبطة بالإدعاء”. اللبنانيون واللبنانيات يجمدون في أماكنهم غالباً حين يصل الأمر الى نقطة الإدعاء. هؤلاء لا يحبون “وجع الرأس”! اليوم هناك حديث عن تعبئة عامة مجدداً في مواجهة فيروس كورونا فلينتبه الرجال والنساء الى المبتزين وليحموا أنفسهم منهم أيضاً، لأن الإحتيال له رؤوس كثيرة بمخيلات أوسع من قدرتنا على تصورها.
فلنبحث أكثر في أشكال الإحتيال المستجدة في هذه الأيام. هناك من سيلهونكم على الطرقات من أجل سرقتكم. امرأة تسكن بالقرب من كفيفان. قبضت معاشها مليون و250 ألف ليرة وركبت سيارة أجرة في المقعد جنب السائق. وحين أرادت أن تدفع له انتبه الى رزمة مئات آلاف الليرات في حقيبتها. وحين اقترب من إحد السوبرماركات في المنطقة قال لها: إنه يضربها… الرجل في داخل السوبرماركت يضرب امرأة… فراحت تبحث عن الرجل والمرأة، بانتباه شديد، وهو في هذه الأثناء مدّ يده الى حقيبتها واستولى على المال. تكتيك محتال.
ومن “ضروب الإحتيال” أيضاً التي يفترض الإنتباه إليها. قام أحدهم بانتحال صفة مدير مطعم في منطقة الزلقا واتصل بشركة تبيع بطاقات تشريج الهواتف الخليوية وطلب إرسال بطاقات بآلاف الدولارات الى المطعم، حيث حصلت عملية الإحتيال. وفرّ “المحتال” الى جهة مجهولة.
وهناك فصول إحتيال تجري تحت ستار جمعيات خيرية. فلننتبه ممن يحمل بالفعل الخير وممن يستخدمه جسر عبور. وهناك من يلاحقون المركبات ويلقون البيض على زجاجها ليتوقف السائق ويسرقونه. وهناك من يرتطمون بمركبتهم من الوراء بالمركبة التي أمامهم. فينزل السائق، أو تنزل، تاركاً (أو تاركة) كل ما في السيارة فيها. فيأتي شخص رشيق ويسلب ما فيها. وهناك من دخل، منذ ايام، الى محل في منطقة برج حمود وأقنع العاملة أن صاحب المحل يريده أن يختار ما يريد على أن يدفع لاحقاً. وتظاهر أنه يتكلم معه. ووقّع إسمه (المستعار طبعاً) ورقم هاتفه على المبلغ الذي اشترى به وغادر. وهناك من أقنع فتاة تبحث عن سرير أنه آت على حصان أبيض وبعد لقاءين معها طلب منها أن تأتي إليه بخاتم ذهبي ليذهب به الى “الجوهرجي” ويشتري لها خاتماً بقياسه. فعلت و”كان وج الضيف”. ألم نقل أن مخيلة اللص والمحتال والمخادع وسع البحر.
عدّوا أصابعكم بعد السلام
هل سمعتم باسم رائد صالح أو جو فغالي؟ هذان الإسمان إستخدما في الآونة الأخيرة في إيهام من يريدون بيع أو شراء الشقق عبر المواقع الإلكترونية، بوجود شخص يلاحق المعاملات لدى الدوائر العقارية ويتقاضى بدل أتعاب ويطلبان من المهتمين إرسال المال له. أكثر من هذا، هناك من يتلقون رسائل عبر تطبيق واتساب يوهمونهم بها أنهم سيحصلون على 20 “جيغابايت” من الإنترنت مجاناً تقدمة ألفا وتاتش، وحين ينقرون على الرابط المرفق يُصار الى سحب كل المعلومات من الجهاز. ضروب الإحتيال كثيرة.
وقبل أن نختم نلفت الى “ضرب إحتيال” آخر ينفذه “بصّارون” ومن لف لفيفهم. أحدهم يقنع الناس أن الجنّ هم من يسرقون لا هو حيث يتواجد بينهم طالحون وصالحون. وهم يصدقون.
إنتبهوا وأنتم تلقون التحية. عدّوا أصابع يدكم. فنحن نعيش في زمن حتى القلب يخدع فيه العقل.