خرج الخلاف بين «التيار الوطني الحر» و»حزب الله» إلى العلن ولم يعد يقتصر هذه المرة على بعض النواب والمسؤولين، إنما عَبّر رئيس الجمهورية نفسه بوضوح عن امتعاضه من دور الحزب، وسيلاقيه رئيس التيار الأحد المقبل.
يشهد التفاهم بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» سوء تفاهم عميقاً، وهو ليس من طبيعة انتخابية أو مجرّد مناورة يقوم بها التيار لاعتبارات شعبية، إنما افتراق مصالح مع دخول الرئيس ميشال عون في الأشهر الأخيرة من نهاية ولايته، وتردُّد الحزب في حسم تبنّي ترشيح النائب جبران باسيل لموقع الرئاسة الأولى، حيث ان للتوقيت أهمية على هذا المستوى باعتبار ان الخلاف خرج بهذا الشكل إلى العلن بعدما لمس التيار غياب نية الحزب بتسمية باسيل.
والمعطيات من داخل التيار تشير إلى وجهتي نظر حول هذا الخلاف:
الوجهة الأولى تعتبر ان العلاقة مع الحزب أصبحت «خَسّيرة»: عقوبات أميركية، غضب خليجي، انهيار داخلي، تململ شعبي، وعلاوة على كل ذلك وقوف الحزب على مسافة رئاسية واحدة من باسيل ورئيس تيار»المردة» سليمان فرنجية على رغم الفارق في الحجم الشعبي والسياسي، كما الكلفة التي تكبّدها التيار من جراء تغطيته لسلاح الحزب ودوره، وبالتالي طالما انّ الحزب لم يحسم خياره الرئاسي فلماذا الإبقاء على تحالف من طرف واحد المستفيد الأول منه هو الحزب والتيار تحوّل إلى خاسر-خاسر؟
أما وجهة النظر الأخرى فهي أكثر براغماتية وترتكز إلى ثلاثة عوامل أساسية:
العامل الأول يتعلّق بغياب أي حليف موضوعي للتيار الذي دخل في خصومة مع الجميع، بدءاً بـ»القوات اللبنانية»، مرورا بـ»المستقبل» و»الاشتراكي» و»أمل»، وصولا إلى الرأي العام اللبناني واستطرادا المسيحي الذي لم يعد يرى في التيار خشبة الخلاص التي مثّلها قبل انتخاب عون رئيساً للجمهورية، وبالتالي أين مصلحة التيار في فكّ تحالفه مع الحليف الأخير له وفي ظل غياب البدائل؟
وهناك من يعتبر على هذا المستوى انّ التيار يمكن ان يستثمر في هذا العامل من أجل ان يَستجلب التعاطف معه بعنوان المظلومية، وان عدم اتفاقه مع اي فريق سياسي مردّه إلى كونه وحده يريد «الإصلاح والتغيير»، ولكن هذا العنوان لم يعد يستقطب ومن المستبعد ان يلقى اي تعاطف بعد ممارسة أظهرت انّ الشعارات في مكان والتطبيق غير الموجود في مكان آخر، فضلاً عن ثورة ونقمة شعبية وانهيار غير مسبوق.
العامل الثاني يرتبط بالانتخابات النيابية التي بإمكان الحزب رفد التيار بأصواته في أكثر من دائرة بما يعوِّض عليه تراجعه على المستوى المسيحي، وهو بأمسّ الحاجة إلى أصوات حليفه الحزب في هذا التوقيت بالذات، وبالتالي لا مصلحة بفك هذا التحالف عشية انتخابات نيابية من مصلحة التيار فيها الحفاظ على تكتُّل نيابي فَضفاض يستحيل ان يبقى في الطليعة من دون الحزب.
العامل الثالث يتّصل بالانتخابات الرئاسية التي يفترض بالحزب ان يتبنى فيها ترشيح باسيل، وفي حال لم يفعل فإنه لن يُقدم على خيار يستفزّ التيار، إنما سيحرص على استمرار الفراغ ووضع انتخاب الرئيس في يدّ التيار، فيما قطع العلاقة معه نهائياً وهي مقطوعة أساسا مع القوى الأخرى، يمكن ان يُفضي إلى انتخاب رئيس لا كلمة للتيار في تسميته على وَقع تراجع نيابي وشعبي وفقدانه الأكثرية المسيحية.
وانطلاقاً من هذه العوامل، فلا مصلحة، بالنسبة إلى وجهة النظر الثانية، بنقل العلاقة مع الحزب من التحالف إلى الخصومة، بل المصلحة تقتضي الابتعاد عنه نسبيا ونظريا مع إبقاء «شعرة معاوية» تجنّباً لأن يتحمّل التيار تبعات تحالفه مع الحزب، وان يستفيد من تبادل الخدمات معه على القطعة، خصوصا ان لا مصلحة للتيار بأن يتحوّل إلى فريق مرفوض أميركيا وخليجيا، وهذا المستوى من العلاقة لا يزعج الحزب الذي لا يريد ان يزيد أخصامه، ويهمّه ان يحافظ التيار على مستوى معيّن من الشعبية والحضور تلافياً لخصومة تنزع عنه آخر غطاء مسيحي وازن.
ومن الواضح ان «حزب الله» ليس في وارد القطع مع «التيار الحر»، إنما هو منزعج من طلباته الكثيرة ورغبته في ان يستأثِر بالعلاقة معه، وعدم تفهُّمه أهمية وحدة الموقف داخل البيئة الشيعية مع «أمل». والتيار، بالنسبة إلى الحزب، هو الحليف الوحيد الذي يطلب ويشترط ويعترض وليس مطواعاً على غرار غيره من الحلفاء، ولكنه لا يريد ان يخسره، لأنه ليس لديه بدوره ترف خسارة فريق من وزنه الشعبي والسياسي.
ولكن بالنسبة إلى التيار من يتحمّل مسؤولية الاهتزاز في العلاقة هو الحزب لأنّ المعادلة التي قامت عليها هذه العلاقة تكمن في تبادل أدوار واضح بين من يغطّي السلاح الذي حصل على أفضل تغطية في العهد الحالي، وبين من يفترض فيه دعم توجهات التيار السلطوية بغية ان يؤدي دوره في هذه التغطية. وبالتالي، مَن أخَلّ بهذه المعادلة هو الحزب الذي كان يفترض به ان يتبنى ترشيح باسيل للرئاسة الأولى تلقائياً، وان يضغط على حليفه «أمل» من أجل ان يتبنى المجلس الدستوري الطعن، وهذه المسألة بالذات كانت كنقطة الماء التي أفاضت الكأس، فخرج الخلاف إلى العلن، لأن تصويت المغتربين يُضاعف في خلل التيار الشعبي ويزيد نتيجة الانتخابات مأسوية.
ولم يطرح رئيس الجمهورية الاستراتيجية الدفاعية بعد خمس سنوات على رئاسته سوى من أجل توجيه رسالة إلى الحزب محورها إثارة إشكالية سلاحه ودوره للمرة الأولى بغية القول للحزب انّ كلفة الخروج من التحالف لن تكون أقل من انضمام التيار إلى المطالبين بعدم تدخله في الشؤون الخارجية، وإعادة قراري الحرب والسلم إلى داخل الدولة على رغم كلامه عن ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة».
وعلى رغم تقدُّم موقف الرئيس عون، إلا انه لم يعد يخيف «حزب الله» كونه يأتي في سنته الأخيرة، ولم يحظَ أساساً بأي تجاوب وطني، لأن أحدا ليس من مصلحته إعادة تعويم الرئيس الذي تجاهل الاستراتيجية الدفاعية طيلة عهده ولم يُثِرها لاعتبارات مبدئية ودستورية ودولتية، إنما بسبب خلافه السلطوي مع الحزب، أي لاعتبارات مصلحية فقط لا غير، حيث يتجاهلها في زمن الوئام مع الحزب، ويثيرها في زمن الخلاف معه.
والسؤال الذي يطرح نفسه أخيراً: ما مصير العلاقة بين «التيار الوطني الحر» و»حزب الله» عشية الانتخابات النيابية والرئاسية؟ وإذا كان يصعب تَوقّع انفراط العلاقة بشكل نهائي انطلاقا من قاعدة «الحزب بيخَوِّف والتيار بيخاف»، وبسبب غياب البدائل لدى الطرفين وتحديدا التيار، خصوصا ان «تفاهم مار مخايل» ليس كـ»تفاهم معراب» الذي يشكل التخلّص منه مصلحة لقطع الطريق على رئاسة الدكتور سمير جعجع، فيما التفاهم الأول ليس ضمن البيئة التنافسية الواحدة، إنما تبادل مصالح وخدمات مشترك، ولكن هل سيدفع هذا الخلاف الحزب إلى مراجعة خياراته الرئاسية والتحالفية من خلال إعادة تبنّي ترشيح باسيل؟ وهل سيُقدم الحزب والتيار إلى معالجة سوء التفاهم بينهما على قاعدة تنظيم الخلاف قبل الانتخابات النيابية لأنّ جمهور الطرفين وصل للمرة الأولى إلى حالة عدم تقبُّل الآخر؟ وهل سيكسر باسيل الجرة مع الحزب الأحد المقبل أم سيُبقي على «شعرة معاوية» من أجل عدم ترييح الحزب ومواصلة الضغط عليه لتبنّي ترشيحه؟