بعد عودة العماد ميشال عون الى لبنان من منفاه الباريسي، باشر عدد من المقربين منه وإليه الانفصال عنه على مراحل، وكان لكل من هؤلاء سبب او مبرّر مختلف عن الآخر، لكنهم اجمعوا على ان مؤسس “التيار الوطني الحر” يملك وجهاً آخر عمّا اطل به على اللبنانيين وتمكّن بخطابه من استمالة، وبنوع خاص، شريحة مسيحية واسعة.
انفصل عن عون، على سبيل التذكير، عند محطات عدة، قياديون أسوة باللواء عصام ابو جمرة والعميدين فؤاد الاشقر وعادل ساسين…، ثم كرّت سبحة تركه من قبل افراد العائلة أسوة بكريمته ومستشارته في قصر بعبدا ميراي التي كان يعتبرها بمثابة عقله قبل ان يأخذ عقله صهره جبران باسيل الذي نجح في تطبيق نهج عون الاستفزازي والابتزازي. وقبلها غادر “التيار” ابن شقيقه نعيم مع مناضلين آخرين، على غرار رمزي كنج وانطوان نصرالله… وأخيراً صهره السابق العميد شامل روكز وصولاً الى الامس القريب حيث لا يخلو الاعلام من الكشف بشكل يومي عن انفصال او إبعاد اعضاء في “التيار” على مستويات عدة، وصولاً الى خلافات فاضحة داخل الفريق الرئاسي.
يقول الذين انفصلوا طوعاً عن عون ابان توليه رئاسة الجمهورية، انه لم يعد باستطاعتهم الاستمرار في البقاء الى جانبه، وهو الملهم لصهره رئيس تكتل “لبنان القوي”، حيث كل من رئيس الجمهورية ورئيس “التيار الوطني الحر” يمضيان في تسليم البلاد الى “حزب الله”، وضحّيا بالسيادة من اجل الرئاسة القائمة والرئاسة المرتقبة لباسيل اذا امكن ذلك، مع كل ما يرتّب ذلك من استكمال القضاء على سيادة البلاد ومقوماتها والخضوع لـ”حزب الله”، في موازاة تنامي الازمات الاقتصادية – الاجتماعية وتداعياتها تنامي حالات من الفقر والهجرة.
وكانت جملة واحدة تختصر موقف الانفصاليين وهي “اننا تفاجأنا ولم نكن نعرفه هكذا… وقد غشنا..” إذ كان عون بالنسبة لهؤلاء مثال القائد الصادق الذي سيصون السيادة ويقوّي دور القوى الشرعية ويعزّزها، ويستردّ المعتقلين في السجون السورية، مع قناعاتهم المطلقة بشعاراته التي رفعها وتوقعوا منه تنفيذها لدى انتخابه رئيساً للجمهورية،على قاعدة انه الرئيس القوي القادر على انقاذ البلاد.
شهد “التيار الوطني” خلافات داخلية متعددة حسمها عون لصالح باسيل الذي ولّاه قائداً على العونيين، وعمد الى لملمة معارضة انتخابه رئيساً لـ”التيار الوطني الحر”، مع بعض هؤلاء المعارضين الذين ما زالوا في “التيار” بينهم نواب حاليون وسابقون.
وتبين قبيل الانتخابات النيابية الاخيرة بأن باسيل سعى لتحجيم عدد من النواب او اسقاط آخرين وإبعادهم، على ما شهدت دوائر انتخابية عدة موزعة بين جزين، الشوف، المتن الجنوبي، المتن الشمالي وجبيل.
وبات جلياً ان ثمة صراعات واضحة بين باسيل وهؤلاء النواب والسابقين منهم، على الكثير من النقاط، تنطلق من مدى تبعيته لـ”حزب الله”، ومحاربته لهم حالياً في مناطقهم وتحريضه منسّقي المناطق عليهم على ما يقرّ هؤلاء في مجالسهم، فيما الواقع ظاهر بشكل واضح للمراقبين، وثمة آخرون يتحسّس باسيل من توليهم مواقع وادواراً بارزة، وهو المعاقب بقانون “ماغنتسكي” للفساد والمعزول دوليا عن المجتمع الدولي..
لكن هؤلاء المتململين من باسيل لا يزالون يسلّمون برئاسته عليهم وهم الذين عبّروا لناخبيهم قبل الانتخابات في جلسات اعتبروها مغلقة، عن عدم رضاهم على تصرفاته التي اوصلت العهد و”التيار” الى هذا التردي السياسي والفشل الذريع، واعدين بعدم السكوت عن هذا الواقع بعد فوزهم الذي جاء متواضعاً، لكنّ اياً من ترجمة للوعود او الشكاوى لم تظهر عمليا حتى حينه… ويبرّرون ذلك لدى مراجعتهم بأنهم يراعون طلب “الختيار”، اي الرئيس ميشال عون بالبقاء الى جانب باسيل…
الواضح أن باسيل كرئيس لـ”الوطني الحر”، ورث تيار عون على حياة الأخير، ويعيش في جلبابه وكنف “حزب الله”، وهو ليس مثال السياسي المسؤول القادر على انتاج حلول بقدر قدرته على ابتكار فتن وخلافات…
الواضح ايضا ان باسيل جاء متأخراً الى “التيار”، لكنه اجاد تطبيق قواعد ملهمه عون في تعاطيه مع الآخرين، سواء كانوا المعارضين ام الحاضنين له، اذ نقاتل فريقاً ونخضع للآخر القوي لتحقيق الغاية.
الواضح ايضاً ان باسيل ليس رجل عقيدة، ولا “التيار الوطني” هو هكذا، بل هو مثال السياسي الذي يقدّم اهدافه الخاصة على المصلحة العامة، رغم الدمار المتعدد الأوجه الذي ينتج عن ذلك…
والى هذا، يفاخر الذين يشكون من باسيل من نواب حاليين وسابقين، بأنهم كانوا قبله في “التيار الوطني الحر”، ولا يخفون في لقاءاتهم امام مجموعات حزبية مؤيدة لهم تخوفهم من استمراره في نهجه العدائي داخل “التيار” وخارجه…
ولكي لا تصل البلاد في مرحلة دقيقة قد تشهد فراغاً رئاسياً، الى خطوات لا تقدّر عقباها يقدم عليها عون – باسيل على غرار المرحلة الممتدة بين العامين 1988 – 1990، وما قد ينتج عن ذلك من تلاعب بالنظام الحالي مع ما يرتب الامر من تعديلات لا يقوى المسيحيون على تحملها بعدما أوصلتهم مغامرات عون الفاشلة الى اتفاق الطائف والمناصفة الناتجة عنه، فإن عدداً من نواب تكتل “لبنان القوي” الحاليين والسابقين وكذلك مسؤولين حزبيين، مدعوون لاتخاذ قرار انقاذي للبلاد وللمسيحيين، لان الثنائي عون – باسيل سيقدمان على مغامرات اما ذاتية واما موجهة من قبل دعاة تطيير النظام وتحقيق المثالثة، وما ينتجه التعديل من تداعيات، حيث يوافق عون – باسيل على تغطية تعديل النظام على ان يكون باسيل رئيساً للجمهورية، وذلك من ضمن تسوية يراهنان عليها في ظل تشتت مؤيدي النظام الحالي، فيتم تصوير الامر للمسيحيين بأنهم حصّلوا صلاحيات رئاسية مقابل خسارتهم الجمهورية، ويكونون كمن يلحس المبرد عندها…
لذلك ان بقاء هؤلاء النواب الحاليين والسابقين في تكتل “لبنان القوي” بات بمثابة جريمة موصوفة في حق البلاد، وتهرّبهم من الانفصال عن باسيل تحت ذريعة استعدادهم لمواجهته في انتخابات رئاسة “التيار”، سبب غير مقنع…
ان هؤلاء الذين يشكون من باسيل ويقولون عنه في مجالسهم وبين بعضهم البعض، ما قاله الانفصاليون عن عون بأنه غشهم، لم يعد مسموحا لهم ولن يكون الامر كذلك اذا ظلوا تحت رئاسته، اذ انهم مدعوون الى تشكيل حالة جديدة اذا كانوا صادقين في توجهاتهم السيادية والإصلاحية وفي حرصهم على لبنان وشعبه والمسيحيين منهم بنوع خاص…
ان تشكيل هؤلاء المعترضين قبل انتهاء العهد ودخول البلاد مرحلة الفراغ الرئاسي، اطاراً موحداً لهم رافضاً سياسة “حزب الله” – عون – باسيل يشكّل تقويضاً لحالة باسيل واجهاضاً لمغامراته، هي خطوة مهمة وبداية اخراج لبنان من ازمته لانهم سينقذون البلاد من مشروع خطير والا سيكونون شهود زور على ما قد يصيب اهاليهم وعائلاتهم وابناء بيئتهم من مآسٍ، وعندها هم حكماً مشاركون في تصفية المسيحيين وتهجيرهم، حيث لا ينفع الندم والتبرير…