مع كل حدث سياسي يتورّط فيه التيار الوطني الحر، يضاعف من تبعات المأزق الذي وضع نفسه به ووضعه حلفاؤه به. مع ذلك يبدو الخروج من المأزق أمراً متعثراً، وقد لا يكون قريباً
يوماً بعد آخر، يتحول المأزق الذي وصل إليه التيار الوطني الحر مزدوجاً، لا بل متعدد الأضلاع. لأنه في كل مرة يغامر بالذهاب إلى موقف متقدم يجد نفسه مجدداً أسير ما أصبح عليه وضعه في الأشهر الأخيرة ومنذ ما قبل انتهاء عهد العماد ميشال عون. والمشكلة التي تواجهه اليوم أنه لم يعد يجد من هو قادر على إخراجه من المأزق الذي وضع نفسه به، كما ساهم حلفاؤه في إيصاله إليه.
تقف بكركي اليوم موقفاً متشدداً في الدفاع عن المواقع المارونية وأولها موقعا رئاسة الجمهورية وحاكمية مصرف لبنان. ولعل الحاكمية تعني لبكركي ما تعني، فيصبح موقفها أسير معايير مزدوجة في دفاعها عن المواقع المارونية والميثاقية في مجلس الوزراء والحقيقة في انفجار مرفأ بيروت، في مقابل دفاعها عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ما يفقدها كل صدقية في مواقفها الأخرى.
يقوم التيار الوطني الحر بالأمر نفسه. يخوض معركة الميثاقية في جلسات مجلس الوزراء، ويتلطّى خلف موقف بكركي حين تتقاطع مع حساباته، لكنه في الوقت نفسه يعرقل انتخابات رئاسة الجمهورية، ولا يتجاوب مع دعوات بكركي لحسم موضوع الرئاسة، ويكرر لعبة تقاسم الأصوات الملغاة والبيضاء ولا يخرج من علاقته مع حزب الله. مع ذلك، يتصرف على أنه المدافع الأول عن رئاسة الجمهورية فيما يشن حملة ممنهجة على كل المرشحين من دون استثناء، كي يصل في نهاية المطاف إلى الاسم الذي لا بد منه أي رئيسه النائب جبران باسيل.
لا شك أن باسيل أراد منذ انتهاء العهد أن يظهر بمظهر الرجل الأكثر اطمئناناً إلى مصيره، وهو راهن رهاناً ناجحاً على أنه قادر على إحكام قبضته على التيار خلافاً لاعتقاد خصومه بأن انفراط عقد التيار سيكون سريعاً بعد خروج العماد ميشال عون من القصر الجمهوري. وقد نجح حتى الآن في أن يمسك بزمام حزبه ولو استمرت النقاشات ما بين نوابه ومسؤوليه حول المرحلة المقبلة ورئاسة الجمهورية. ولا يزال بذلك متقدماً بالنقاط على خصومه داخل التيار متكئاً أولاً وآخراً على موقع الرئيس السابق ميشال عون في بسطه حمايته له. كذلك يستند إلى عون في معاركه داخل التيار وخارجه، وحين تدعو الحاجة يصبح كلام عون هو المظلة العلنية سواء في ما يتعلق بجلسات الحكومة أو تسمية المرشح الرسمي للتيار أو العلاقة مع حزب الله. وفي هذه النقطة ما يقوله عون يتقدم بأشواط ما يقوله باسيل. ففي المحصلة لا يزال رئيس الجمهورية السابق هو الذي يعتبر أن هناك من أفشل عهده، وأن حليفه غطّى ارتكابات خصومه وساهم في منع قيام حكومة آخر العهد، ووقف إلى جانب أعدائه ولم يعط لمرحلة ما بعد خروجه من قصر بعبدا ما يستحقه. وما يقوله عون أو باسيل يعرفه حزب الله تماماً، ولذلك يصبح التشدد بينهما أكثر حدة يوماً بعد آخر.
والحزب الذي تعامل بهدوء كبير في الملفات الداخلية، يتصرف وكأنه لا يزعجه انزعاج التيار أو حتى الرئيس السابق. وهذا ما يترك سلبيات داخل التيار، لأن عدم مراعاة باسيل أمر يختلف تماماً عن عدم مراعاة عون مع كل ما قام به تجاه الحزب في أحلك ظروفه. لكن هذه السلبيات التي يراكمها التيار، تصبح يوماً بعد آخر ثقلاً على التيار وحده، إذ إنه إضافة إلى خصومته مع الرئيس نبيه بري وعلاقاته السيئة مع كل القوى المسيحية وصولاً إلى حزب الله، بات يفتقد أدوات المواجهة مع كل هذه الأطراف. فلا هو قادر اليوم على اختلاق مشكلة بعناوين جذابة مع القوات اللبنانية ولا مع القوى السنية في غياب زعيمها الرئيس سعد الحريري عن الساحة السياسية، فلم يتبق له سوى عنوان الميثاقية التي يلعبها إلى الحد الأقصى مع الرئيس نجيب ميقاتي كرئيس للحكومة ولكن أيضاً نيابة عن غيره من الذين يغطون مجلس الوزراء. إضافة إلى ملف المرشحين للرئاسة، وليس الرئاسة بذاتها، مع حزب الله ورفض الذين لا يرى فيهم رؤساء جمهورية بالمعايير التي يفترضها. وخصوصية معركة باسيل الرئاسية هي أنه وسّع نطاقها في حركة سياسية كبرى، لتنحصر تدريجاً في عناوين لا تكفي لخوض معركة على المستوى الوطني العام. من هنا صارت مشكلته مع حزب الله الأكثر حضوراً والمتقدمة على سواها، وهو إذ ينطلق من حسابات «صحيحة» كما يصفها التيار، إلا أنه بات مكبلاً برد الفعل الذي يمارسه الحزب «بالقطارة» معه، فلا تنفجر المواجهة شاملة ولا تتحول معركة كبرى بالمعنى العريض. وبذلك استدرجه الحزب إلى ملعبه، فيما هو بات أسير المراوحة بعدما استنفد أدوات المعركة مبكراً. حتى أصبحت العلاقة مع حزب الله أكثر أهمية من الشروع بحوار حقيقي حول مستقبل الرئاسة بمفهوم يختلف عن حسابات المقايضة.