حصلت على هامش الأزمة الأخيرة بين التيار الوطني الحر وحزب الله، نقاشات كثيرة تفيض بالسلبية في الشكل، لكنها قد تكون إيجابية جداً في المضمون إذا ما وُضعت على طاولة جدية للبحث من دون قفازات و«تطييب خواطر». ويمكن، في هذا السياق، الانطلاق من أفكار أساسية:
أولاً، حزب الله – 2006 ليس نفسه حزب الله 2023؛ لا جغرافياً ولا بشرياً ولا قتالياً ولا لوجستياً، ولا سياسياً أيضاً. كان الحزب يقاتل لدخول حكومة يكون له ولحلفائه مجتمعين الثلث المعطّل فيها، فيما صار اليوم الثابت الوحيد في حكومات لا يحظى خصومه مجتمعين بثلث معطّل فيها. وتحوّل من حزب مع حليف جديّ واحد و«تفاهم» مع حليف آخر إلى حزب بحلفاء كثر. وإذا كان التيار قد استغرق وقتاً طويلاً ليفهم ويتفهّم ويقتنع بطبيعة العلاقة بين الحزب والرئيس نبيه بري، فإن الحزب من جهته لم يقم بحوار واضح وشفاف مع التيار، يشرح فيه ماهيّة علاقته بزعماء السُّنة والدروز في لبنان. وهنا، لا يجوز أن تتردّد المقولة نفسها بأن رئيس التيار جبران باسيل كان سبّاقاً في الانفتاح على الرئيس سعد الحريري، وأن الحزب لا يمكنه أن يصالح الحريري أو يخاصمه وفق قرار باسيل بمصالحة رئيس الحكومة السابق أو مخاصمته. ترداد ذلك قد يجوز في «التمريك» على مستوى جمهورَي الفريقين، لكنه لا يُغني عن شرح واضح ومفصّل لقيادة التيار حول حقيقة تصور الحزب للعلاقة مع جميع الأفرقاء، على غرار توضيحه للعلاقة مع حركة أمل، ليبني التيار على نتيجة هذا الحوار مقتضاه. ولا بدّ هنا، أن يكون الحزب واضحاً بأن معادلة «روحوا تفاهموا مع باسيل» التي حكمت أداءه الداخلي بين عامَي 2006 و2016، قد تجاوزتها الظروف، لكي يبحث الطرفان في إمكانية تسطير معادلة جديدة.
ثانياً، على حزب الله – بمختلف مستوياته – أن يضع جانباً النظرية التي تقول إن التفاهم هو أوكسيجين التيار الذي سيهلك إذا ما خرج منه. من يردّد هذا الكلام يظهر كمن يصدق أكاذيب يسوقها خصوم الطرفين. وهنا، ينبغي أن يقرأ حزب الله نتائج الانتخابات جيداً؛ ليس نتائج التيار فقط، بل كل الأفرقاء بما في ذلك، مثلاً، ما جمعته حركة «مواطنون ومواطنات» في كل لبنان، ليتأكد أن أحداً لا يدين بوجوده السياسيّ في هذا البلد لأحد. والأمر نفسه ينبغي أن يفعله التيار حتى لا يصدّق عوني واحد أن المقاومة تدين بوجودها أو حضورها أو استمراريتها للتيار. هذه معزوفة يجب الانتهاء منها، من الجانبين، والانطلاق في مقاربة واضحة بأن أياً منهما لن يتأثر سلباً في حال افتراقهما، لا بل يمكن أن يكون العكس هو الصحيح.
ثالثاً، بات جلياً أن الحوار لا يمكن أن يدور وسط خشية من ظهور تضارب واضح في الأولويات، شرط أن يتطور النقاش إلى تحديد التقاطعات وتعزيزها والعمل على تحقيقها. فالمشكلة، في العامين الماضيين، لم تكن في تضارب الأولويات، بل في إيجاد تقاطعات ضمن هذه الأولويات المتضاربة، تماماً كما يفعل الحزب مع نبيه بري وسعد الحريري ونجيب ميقاتي ووليد جنبلاط. كما أن احترام قيادتَي الفريقين لجمهوريهما يجب أن يدفعهما إلى مصارحة شاملة وواضحة في تحديد واضح للأولويات بعيداً عن الشعارات التي لم تعد تجدي الفريقين نفعاً. وتفصيلاً، على الحزب أن يقول بوضوح إن الانفتاح شرقاً وتأمين فيول من إيران، مثلاً، هو حلم أو طموح لكن الأولوية في اللحظة الراهنة هي للاستقرار السياسي الذي يهزّه طرح كهذا. تماماً كما على التيار أن يقول، لجمهوره قبل الآخرين، إن وضع ميقاتي في السجن هو حلم أو طموح، لكنه ليس أولوية في اللحظة الراهنة لأن موازين القوى لا تسمح بتحقيقه، فيما الأولوية هي الحفاظ على أسس الشراكة السياسية قبل الطائفية التي كُرّست في الأعوام القليلة الماضية. أين يكمن التقاطع بين أولوية الاستقرار السياسي عند الحزب وأولوية الشراكة عند التيار؟ هذا ما يفترض توضيحه بتواضع والعمل على تحقيقه.
رابعاً، على الحزب أن يعرف أن طبيعة التيار الذي اندفع للتفاهم معه عام 2006 هي نفسها لم تتغير. هو تيار، منذ نشأته، غير متفاهم أو متجانس أو متصالح مع كل المكوّنات السياسية اللبنانية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن الحريري وميقاتي وغيرهما إلى بري وجنبلاط والقوات والكتائب والأحرار والرئيس سليم الحص والنائب السابق نجاح واكيم والحزب الشيوعي والحزب القومي وتيار المردة والبيوتات السياسية المسيحية والسنية والشيعية والدرزية. هذا هو التيار الوطني الحر الذي تفاهم معه الحزب عام 2006؛ لا هؤلاء يحبونه ولا هو يحبهم، ولم يتغير أي شيء في هذه المعادلة، ولا يجب أن يتغير. مع الإشارة إلى أن ما خسره التيار من جمهور كان بفعل التفاهمات لا الخصومات. فكما خسر من جمهوره حين تفاهم مع الحزب، خسر أيضاً حين تفاهم مع الحريري والقوات وآل المر وغيرهم. قد يبدو هذا غير منطقي، لكنها طبيعة الجمهور العونيّ الذي يبدو من بعض النقاشات أن الحزب لم يدرسه جيداً. ما يقوله الحزب في المجالس الخاصة عن قدرته على بناء تفاهمات وعلاقات مستقرة مع كل هذه المكوّنات صحيح طبعاً، لكنه لا ينسحب على التيار، لأن ما يريده الحزب من هؤلاء جميعاً هو اتفاق سياسي يكفّ شرّهم عن سلاحه مقابل عدم اقترابه من حصصهم، فيما يزاحمهم التيار على المقاعد النيابية والإدارية ويتعارض وجوده مع وجودهم بالكامل. لذلك، قد يقبل هؤلاء بما يريده الحزب منهم، لكن لا يمكن أن يقبلوا بما يريده التيار؛ وهكذا كان الوضع بين عامَي 1993 و2005 بالمناسبة.
خامساً، على التيار أن يعلم، وأن يُفهم جمهوره بوضوح، أن حزب الله لا يعمل لدى التيار ولا يستمدّ شرعيته أو مشروعيته من العونيين. وهم حين يقولون إنهم «يُغطون» المقاومة، فإنهم أيضاً يصدقون أكاذيب خصومهم وخصوم الحزب. العونيون كانوا حلفاء لهذه المقاومة، وقد غيّر الرئيس ميشال عون الكثير في نظرة وذهنية جمهور عريض حول المقاومة والصراع مع إسرائيل. لكنّ فكرة «الغطاء» أنتجها وموّلها وأخرجها خصوم العونيين لإقناع الرأي العام بأن التيار يتحمل مسؤولية كل ما يحصل، فيما كان العماد عون واضحاً في عشرات المقابلات بأنه يتعامل مع أمر واقع موجود، رافضاً أن يكون ومجتمعه وقوداً لحرب داخلية أو أداة يحاولون أن يحققوا بواسطتها ما عجزت إسرائيل والتكفيريون عن تحقيقه. باختصار، لا يمكن في سياق «البناء» أن يواصل الحزب والتيار مهزلة «تمنين» كل منهما للآخر.
المشكلة ليست في تضارب الأولويات بل في إيجاد تقاطعات ضمن الأولويات المتضاربة
سادساً، على التيار مصارحة الحزب، بوضوح كامل، عن حقيقة موقفه في ما يخص التوتر المتواصل مع الخليج بكل ما تبعه من تداعيات ترهيبية على أنصاره بعدما استخدمت القوات اللبنانية وبعض النواب التغييريين هذا السلاح شرّ استخدام. وعليه أن يقول بوضوح إنه وجمهوره وبيئته الحاضنة لا يتحملون من قريب أو بعيد عبء الإضرار المباشر بمصالحهم نتيجة تحالفهم السياسي. فالتيار، حين تفاهم مع الحزب، كان يتطلع إلى حماية مصالح بيئته لا تعريضها لما تعرّضت له في السنوات القليلة الماضية. لذلك، على التيار أن يقول للحزب إنه لم يبق رجل أعمال واحد يجرؤ على المجاهرة بعونيته نتيجة الشيطنة الخليجية للحزب والتيار، مع تداعيات كل ذلك على المغتربين وعائلاتهم، إذ يكاد لا يوجد بيت مسيحيّ واحد لا معيل له يعمل في الخليج، وهو ما عرفت القوات جيداً كيف تستغله في الانتخابات الأخيرة.
سابعاً، ينتظر من الحزب أن يفتح نقاشاً سياسياً يقدم بموجبه معلوماته ويشرح رأيه في ما يخص التوجهات الإسرائيلية والوضع السوري والحراك السوري – التركي – الروسي والسوري – الخليجي – الروسي، ومستقبل المراوحة الإيرانية – الأميركية وموقف إسرائيل منها، وطبيعة الصراع في المرحلة المقبلة وأمده، ودور لبنان ووظيفته وسط هذا كله. ليقول التيار بعدها بدوره موقفه ويحدد الطرفان نقاط الالتقاء والافتراق.
ثامناً، على الحزب والتيار أن يمنحا الخطوط العريضة العليا الاهتمام المناسب بوضوح وصراحة، كملفَّي رئاسة الجمهورية وتكليف وتشكيل وعمل مجلس الوزراء، من دون أن ينسيهما ذلك العمل المشترك المطلوب على مستويات أدنى لا تقل أهمية، كاتحادات المجالس البلدية والبلديات والنقابات والمدارس والعلاقة بين جمهوريهما والجامعات، حيث كان يفترض أن يستثمر كل منهما في نجاحات الآخر بدل أن يتكبّرا ويكابرا.
الاجتماع الأخير في ميرنا الشالوحي يمكن أن يكون إيجابياً جداً إذا كان يؤسس لحوار سياسي بين التيار والحزب؛ حوار استراتيجيّ عميق، وليس تبادلاً لوجهات النظر أو شرحاً للتكتيك المعتمد هنا وهناك، أو تبادل تبليغات بمقرّرات مجلس شورى الحزب من جهة والمكتب السياسي للتيار من جهة أخرى.