IMLebanon

«التيار الوطني الحر» يستعدّ لتحوّلات ما بعد غزة

 

تحميل المسؤولية لتداعيات العلاقة مع «حزب الله» وليس لوثيقة التفاهم

 

يبدو «التيار الوطني الحر» اليوم أمام مرحلة تاريخية مفصلية يقاربها برؤية تحاكي المشهد المقبل على المنطقة ولبنان.

لكن أبرز سمات تلك المقاربة هي استعادة التيار للقضية المُفتقدة منذ ولادته من رحم «النضال ضد المحتل». ولعل افتقاده للقضية تحديدا كان الذي وقف وراء التراجع شعبيا، في مرحلة شكل حلفه (سمّاه التفاهم) مع «حزب الله» عنوانها الأهم بكل تداعياته في المواقف من الخارج والداخل.

 

طبعا لا يعود سبب هذا التراجع الى وثيقة تفاهم مار مخايل وحدها، إذ يضاف الى أسبابه حكما التعثر في السلطة (أو الفشل لا فرق) واتهامات الفساد، والأهم، تحمّل التيار ورمزه الرئيس ميشال عون وخليفته جبران باسيل، لوزر تراكمات انهيار تعود اسبابه الى فساد الطبقة السياسية منذ ما قبل تأسيس التيار نفسه..

بالتأكيد ان عوامل هذا التراجع كثيرة ولسنا في صدد تعدادها، وفيها الداخلي والشخصي، إلّا ان الأكيد أيضا ان التيار سيكون أمام تحدي تدهور أخطر بكثير في حال لم يضع حدّا لهذا التراجع المضطرد الذي يجري بوتيرة دراماتيكية والذي يفعل منافسوه من اليمين المسيحي في تعزيزه عبر محاكاة عواطف الجمهور المسيحي بغالبيته المتجهة أكثر فأكثر نحو الانعزال ورفض التعايش مع الآخر، ولعل لذلك أسبابه المنطقية لا سيما لناحية أداء الحليف الأوثق: «حزب الله».

المشروع الإسرائيلي نحو التراجع

لكن قبل الولوج الى طبيعة العلاقة اليوم ومستقبلا مع الحزب، فإن التيار، كما يؤكد أكثر من قيادي فيه، أمام مرحلة جديدة تواكب أولا التحولات في لبنان والمنطقة، وعلى رأسها التداعيات الاستراتيجية لحرب غزة بكل مفاعيلها لبنانيا بما يتعلق بمستقبله ككيان.

فالتيار يحضر الذات لمشهد جديد في المنطقة ولبنان رُسمت ملامحه في 7 تشرين الأول 2023.

 

فالمشروع الإسرائيلي برمّته يتجه نحو التراجع بعد ضرب أسسه وعلى رأسها نظرية الأمن التي أسست عبرها الصهيونية دولة إسرائيل. فقد أثبتت الأحداث ان إسرائيل ككيان باتت أمام تهديد وجودي وهو ما حمله خطاب رئيس التيار جبران باسيل في حديثه الأخير للـ«أو تي في».

يشير التياريون الى ان باسيل قدّم محاكمة تاريخية للحركة الصهيونية ونموذجها الاحادي المناقض بما لا يقبل الحياد للنموذج اللبناني لناحية الخطر الوجودي.

ولذلك لا بد من قراءة التطورات انطلاقا من هذه الحقيقة واستنادا الى حماية لبنان وحقوقه. من هنا يورد التيار الحقوق الرئيسية المرتبطة بهذا الموضوع: تحرير الأرض وأولها مزارع شبعا، التمسّك بثروة لبنان الغازية، وربط ذلك مع قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين مع تأكيد عودة النازحين السوريين وسط تفكيك الدولة السورية الذي عملت عليه إسرائيل، بما يؤذي الوجود الديموغرافي اللبناني.

 

هذه الحقوق تأتي في إطار حل كامل متكامل أكده باسيل قبيل زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين مع تأكيد التمسّك بالقرار 1701 لكن مع تنفيذه من قبل إسرائيل أيضا وليس فقط من جانب لبنان.

 

وفي العودة إلى العلاقة مع «حزب الله»، وهي العلاقة السوية شبه الوحيدة للتيار مع الأفرقاء الكبار على الساحة، فإن حرب غزة شكّلت امتحانا لمواقف التيار.

فهذا الحدث كرّس التقارب من ناحية مع الحزب مثلما كرّس أيضا التمايز معه.

ففي موضوع الصراع أكد التيار موقفه تجاه أي عدوان وهو ما يقدّره الحزب كثيرا. لكن موقف التيار بدا متمايزا في الموازنة بين الحفاظ على قوة لبنان ومصلحته «البحتة»، وعدم الموافقة على الذهاب إلى الأخير في موضوع الدعم والانخراط في معركة تحرير يجب أن تلقى على عاتق الفلسطينيين داخل أرضهم وليس من لبنان بما لا يفيدهم أصلا. ولذلك يطالب التيار بإيجاد توازن بين المقاومتين، الفلسطينية واللبنانية، بما يحفظ لكل طرف خصوصيته وبما لا يؤثر على المصلحة اللبنانية، مع تأييد حق لبنان في الدفاع عن نفسه إذا اعتدت إسرائيل.

لكن ذلك ليس أهم نقاط الخلاف مع «حزب الله»، فاللائحة تطول ولا حرج للتيار فيها حتى لو وجد نفسه وحيدا.

كان موضوع «التمديد» لقائد الجيش جوزف عون احدثها، وسيكون الشأن الرئاسي أهمها في المستقبل.

يطالب التياريون بتوافق داخلي وحوار عميق على أساس دعم شخصية إصلاحية تستند الى رؤية واضحة. وبذلك يرفضون كلا من عون وسليمان فرنجية.

خلاف حول الصندوق الإئتماني

يأتي ذلك ضمن رؤية التيار الإصلاحية للخيارات الداخلية التي لا يعارضها الحزب بقدر عدم احتلالها رأس اولوياته. وبتجاهله موضوع بناء الدولة في وثيقة التفاهم، فإنه اختزل بهذا التجاهل نقاط الخلاف الجوهرية مع التيار.

لذلك يرى التياريون ان الهوة تتعمّق مع الحزب، لكن التحالف سيكون طبقا لكل موضوع أو قضية، في الوقت الذي تتضاءل فيه اهمية حوار ما قبل الحرب بين الطرفين حول اللامركزية والصندوق الائتماني.

وللمفاجأة هنا أن الخلاف لم يكن يتعلق بالأولى واضحة المعالم، بقدر تعلق بالثانية غامضة المعالم، وفي كل الاحوال يطالب التياريون بالجلوس بصراحة للحديث في كل شيء من دون اتهامات مسبقة وحروب على وسائل التواصل الاجتماعي.

ويصرُّ هؤلاء على تبرئة وثيقة التفاهم وتحميل «تداعيات التفاهم مع الحزب» وزر تراجع شعبية التيار الذي يرى انه تحمل الكثير لمنع الفتنة الطائفية. لكن التيار لن يقف متفرجاً على التراجع في شعبيته، وسيكون في المستقبل أمام حلم استعادة «القضية»، والقضية هذه المرة ستتمحور حول القضايا «الوجودية» بما تحمل من مسائل اقتصادية وإجتماعية مع التوجه نحو الشباب لمنع هجرتهم، وتحويل الأنظار نحو قضية المرحلة وهي النازحين السوريين التي تهم الشباب تحديدا، مع إجراء قراءة واقعية للدور المسيحي بناء على الاستخلاصات السابقة. فبقدر تمسك المسيحيين اللبنانيين بالمواطنة وبتطوير النظام وبدولة مدنية وبما يحفظ وجودهم ويحمي حرياتهم واحترام ثقافتهم، بقدر ما يأتي تمسكهم بالحوار مع الآخر وبالعيش المشترك وبالانفتاح الداخلي كما بالانفتاح على المحيط العربي والمشرقي، بما يطوي أدبيات الانعزال والرهان على إسرائيل والتدخل الغربي والأميركي وهي الخيارات التي جاءت وبالاً عليهم.

ضبط أصوات التطرف

إختمار كل ذلك سيوازيه مواجهة التيار لأصوات التطرف الإنعزال التي برزت أخيرا بما يضع ضوابط لها لكي لا تتخطى السقوف، وهي الظاهرة التي طفت على السطح كثيرا مع اقتراب عهد الرئيس ميشال عون من خاتمته والتي يتحمل «حزب الله» مسؤولية غير مباشرة فيها لناحية تأجيج مشاعر الناقمين على «إنحيازه» لمنظومة الحكم ضد التيار.

الأمر الإيجابي هنا بالنسبة الى العلاقة بين الجانبين يتمثل في ان الخلاف الرئاسي مؤجل وسط جمود هذا الملف من دون مبادرات خارجية فعلية ربما حتى تضع الحرب في غزة أوزارها.

في كل الأحوال، أبعد من العلاقة مع الحزب، في موضوع التقارب مع المحيط، يؤكد قياديون في التيار على أن الأكثرية فيه هي للتفاعل مع هذا المحيط مؤيدة للعيش الواحد ورافضة للتقسيم، وغيرها هي أقلية بصوت مرتفع ليس أكثر.

وبطغيان صوت الإعتدال على التطرف، يريد التيار مقاربة المرحلة المقبلة التي يرى أن التفاهمات والحوار تعززها، بينما يعلم في قرارة نفسه أنه قد يكون الخاسر الأكبر من تسويات على حسابه سيواجهها بتصميم من موقع المعارضة للسلطة، وهو الموقع الذي يبدو التيار مرتاحاً فيه.. أكثر من أي وقت مضى.