لم يكن صدفةً أن تنفجر العلاقة بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية في وقت دبّت الحرارة مجدّداً بين التيار الوطني الحر وكل من الرئيس نبيه بري وحزب الله.في العادة، لا يغضّ الثنائي الطرف عن اللهجة العالية التي ينتهجها التيار أو بعض أركانه ومسؤوليه حيال أي ملف عالق بينهما، فكيف الحال إذا اشتدت اللهجة يوماً بعد آخر، حيال قضايا استراتيجية كمشاركة حزب الله في حرب غزة، وقضايا داخلية كتغطية الحزب جلسات مجلس الوزراء والتعيينات والتمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون. ورغم استحكام الخلاف بين الطرفين، إلا أن المياه عادت فجأة إلى مجاريها، وذهب الثنائي إلى ضمان فوز التيار الوطني الحر بأصواته في انتخابات نقابة المهندسين، كخطوة أولى، في ظل تهدئة لافتة على طريق مسار يفترض أن ينكشف لاحقاً على متغيّرات.
أي علاقة للقوات اللبنانية بما جرى، في وقت استعاد التيار والقوات السجال بينهما بما يذكّر بمراحل الخلاف المستعرة التي يبدو أنها لم ولن تنتهي، ما دام الطرفان يجرّان معهما قاعدتهما الشعبية إلى استعادة مرحلة التسعينيات، بعدما بات تبادل الاتهامات هي السلعة الأكثر رواجاً واستقطاباً لجمهورين حزبيين متمسّكين بقيادتيهما مهما ارتكبتا من أخطاء؟
من البديهيات السياسية لدى معارضي حزب الله أن هناك نزعة دائمة للتصويب على القوات اللبنانية على قاعدة أنها تشكل اليوم خطراً مباشراً. في حين أن معارضي القوات في الشارع المسيحي يرون مبالغة في هذا التوصيف، لأن ذلك يزيد من تضخيم واقعها ويجعلها حالة متقدّمة، رغم أن خطابها السياسي لا يلاقي إجماعاً سياسياً على مستوى النقاش الفعلي للمشكلات الحقيقية، ولا سيما أن أحداً من هؤلاء لا يقفز فوق واقع أن القوات تنزع إلى حالة إلغائية لمعارضيها كما لحلفائها. الأمر نفسه حصل قبل التسعينيات وبعد عام 2005. فذهبت قرنة شهوان ضحية محاولة التفرد بالقرار المعارض، وسقط حلفاء في قوى 14 آذار على الأساس نفسه رغم ما استفادته القوات من الطرفين لتعزيز وضعيتها السياسية. وحتى حزب الكتائب الذي خرجت القوات من رحمه لم تستطع صياغة تفاهم معه بالحد المقبول إلا بشق النفس وتحت ضغط داخلي وخارجي.
هذا كله لا يلغي وقائع أخرى تتعلق بحيثية التيار الوطني الحر والثنائي الشيعي حيال القوات. لا شك أن استعادة القوات حضورها النيابي بعدما رفعت عدد نواب كتلتها في الانتخابات الأخيرة، كانت أحد المؤشرات المقلقة للتيار كخصم مسيحي وللثنائي معاً. ورغم العلاقة التي جمعت القوات ببري ومحاولة إبقاء مساحة من التواصل بينهما، إلا أن ما يفرّق بينهما أكثر مما يجمع. كما أن القوات حاولت في مرحلة سابقة تهدئة الخلاف مع حزب الله، وحتى إن ثمة من يعتبر أنها لا تزال تراعي الحزب في بعض المفاصل. إلا أن الأحداث المتتالية أخذت الأوضاع إلى مكان آخر. يدرك الثنائي كما التيار أن القوات، بناءً على وقائع موثقة، تتمدّد في شرائح متنوعة من القاعدة المسيحية. هذا لا يعفي من الأخطاء ومن الخطوات المتعثرة في النهج الذي تسلكه استراتيجياً، في كونها تعتمد سياسة الكسب المرحلي، لكنّ الوقائع التي يعرفها التيار (والثنائي)، تثير قلقه على المستقبل القريب، لأنها تكرس لحالة متجددة للقوات يمكن الاستثمار فيها على المدى البعيد. وقد ضاعف من التوجّس من تمدد القوات شعبياً التقاؤها مع المعارضة التي نجحت في الانتخابات النيابية تحت شعار التغيير وكذلك مع الكتائب على معارضة حزب الله، وحول بعض الملفات السياسية التي أعطت المعارضة حضوراً أوسع، ولو كان ذلك أحياناً بفعل ضغط خارجي.
رغم الافتراقات، يدرك التيار أنه يحتاج إلى الثنائي في ظل تنامي القوات التي تستفيد من التشتّت العوني
يضاف إلى ذلك ما يعيشه التيار الوطني الحر من خلافات داخلية تقلق الثنائي، لأن هذه الخلافات باتت تشكل ثقلاً متنامياً. ومن بين المختلفين مع قيادة التيار الحالية شخصيات على صلة وتنسيق مع الحزب، وليس من مصلحته التضحية بها. وعلى المدى البعيد، يحتاج الثنائي إلى حليف مسيحي لا يؤمّن له الحماية الداخلية والغطاء فحسب، إنما يخلق توازناً في وجه معارضيه المسيحيين. ومن أجل ذلك، ستتكرر تجربة إعطاء الثنائي أصواته للتيار الوطني مع أي انتخابات، رغم كل ما فرّق بينهما في السنتين الأخيرتين. والتيار، الذي غضّ النظر عما كان يعتبره أخطاء مميتة في حقه، بات مدركاً أكثر من أي وقت أنه يحتاج إلى الثنائي، في ظل نارَي الخلافات الداخلية وتنامي القوات التي تستفيد من التشتت العوني. ورغم أن الملف الرئاسي لا يزال عالقاً بين التيار والثنائي، ويتقاطع التيار والقوات عليه حتى الآن، إلا أن الأحداث المتتالية كما في خطف وقتل المسؤول القواتي باسكال سليمان، أو السجال حول ملف النازحين السوريين والحوار الداخلي، كل ذلك يؤشر إلى أن الأمور سائرة إلى مسار قد تتغير فيه المعطيات السياسية لدى الطرفين. ولأن هناك تسليماً بأن الوضع الجنوبي باقٍ على ما هو عليه، في انتظار المفترق الاستراتيجي، يتحول السجال إلى الداخل، لتعزيز وضعيات القوى السياسية بكل أطيافها، والتي يستعيد كل منها خطاباً محلياً وخارجياً، عمره من عمر حروب الداخل المتنوعة، لكسر احتكار المشهد السياسي قبل الوصول إلى الاستحقاقات التي تستوجب من الجميع تقديم تنازلات مشروطة.