لو جُمعت سير «المناضلين» ومذكّرات «أصحاب الأحقية» في جناح واحد، لكان هو الأكبر دون منازع في أي معرض للكتب. فمن خرجوا أو أُخرجوا من الحزبين القومي والشيوعي، مثلاً، أكثر بكثير ممن بقوا فيهما. لكن، بقي الحزبان وتشتّت الخارجون. في حزب الكتائب، فشلت كل البدائل، حتى تلك التي قادها سامي أمين بيار الجميل بنفسه، من «القاعدة الكتائبية» إلى «نحو الحرية» فـ«لبناننا»، ما اضطره للعودة إلى بيت الطاعة في الصيفي. والأكثر سيان في حزب الوطنيين الأحرار، وكذلك في القوات اللبنانية التي لا يوجد في كتلتها النيابية الحالية سوى نائب واحد من الرعيل الأول وثلاثة فقط من الرعيل الثاني. ولم يكتب الاستمرار، حتى كنوادٍ سياسية مقفلة للمتقاعدين، لكل من «قدامى الجبهة اللبنانية» و«الاتحاد من أجل لبنان» و«النمور» و«أصدقاء داني». في حركة أمل، سبق للرئيس نبيه بري أن فعل عام 2003 مع محمود أبو حمدان أمراً شبيهاً لما فعله رئيس التيار الوطني الحر أخيراً، مع فارق أن أبو حمدان كان خارجاً لتوه من انتخابات حزبية داخلية حصد بموجبها فوزاً كاملاً في البقاع (الغربي والأوسط والشرقي) فيما انكفأ خصوم باسيل داخلياً بالكامل منذ أكثر من ثماني سنوات. واللافت أن كل الخارجين من هذه الأحزاب وغيرها غالباً ما يشعرون بالغضب نفسه ويكررون العبارات نفسها، لكنهم يواصلون الدوران نفسه في الحلقات نفسها
لا حاجة للمطوّلات: باستثناء نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب، لا هم كانوا «يطيقونه» ولا هو «يطيقهم. لم يسعَ إلى استيعابهم ولا سعوا إلى استيعابه. لا يثق بهم ولا يثقون به. هو: رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. وهم: مجموعة ممن كانوا «رفاق الصف» قبل أكثر من عشرين عاماً، وقبل أن يقرر مؤسس التيار العماد ميشال عون أن يقدّمه عليهم، ويفعل كل ما يلزم لتكريسه صاحب القرار. وإذا كانت ضرورات المراحل السابقة وظروفها اقتضت منه المحاولة ومنهم المسايرة، إلا أنهم، منذ أكثر من عامين، أصبحوا أكثر وضوحاً في تبرّمهم ليس فقط من العلاقة مع باسيل، وإنما من الاجتماعات الأسبوعية للمجلس السياسي والهيئة السياسية وتكتل لبنان القوي، ومن المعارك التي يخوضها التيار، ومن الشعارات والاحتفالات والسهرات والندوات. لأسباب كثيرة لم يعودوا يشعرون بأن الملعب ملعبهم، وأن المعارك معاركهم، وأن التيار – برئيسه ونواب الرئيس واللجان والمنسّقين والقرارات – تيارهم. ورغم تقدّم باسيل على ثلاثة مستويات في المواجهة الأخيرة، هي النظام الذي يحظى بغطاء الرئيس ميشال عون، والمخطط الذي أتقن إعداده مع عون أيضاً من دون إهمال أي تفصيل مهما كان صغيراً، والتوقيت الذي يُعتبر عاملاً أساسياً في أي معركة، لم يسعَ الثلاثي (تُقرأ رباعي) إلى تدوير الزوايا أو ربح الوقت أو الهروب للأمام أكثر كما يحصل منذ أكثر من عقدين. بدا وكأنّ الطرفين يريدان أن يرتاحا، أحدهما من الآخر.
هذا في الماضي البعيد – القريب، فيما يمكن إيجاز الحاضر بالتسريبات والتسريبات المضادة، «فشة الخلق» و«فشة الخلق» المضادة، التهديد والوعيد المضاد… وهذه كلها نفسها تتكرر قبل كل استقالة من التيار وبعدها.
أما الأهم من الماضي والحاضر فهو المستقبل: يخرجون من التيار قلباً وقالباً، معنوياً وعملياً، رسمياً وشعبياً كما فعل زياد عبس حين أدار ظهره بالكامل للتيار وخاض غمار تجربة متواضعة جديدة، أو يغرقون في حالة «لا معلّق ولا مطلّق» التي تصيب معظم الحزبيين الذين تتوقف حياتهم لحظة خروجهم من الحزب فيما تستمر حياة الأحزاب من دونهم، فينتقلون من حالة العمل السياسي بكل ما يتطلبه من تجدد يوميّ وديناميكية وبراغماتية إلى حالة الإنكار والنوستالجيا وعدم الواقعية. وإذا كان ما سبق قد مثّل مقتلاً لتجارب كثيرة رغم نقاوة المعنيين وعنفوانهم وحقهم، فإنه يمثل تحدياً أساسياً بالنسبة إلى «الدفعة الجديدة»: كسائر الأحزاب، ستستمر حياة حزب التيار الوطني الحر السياسية معهم أو من دونهم، وإن بدفع أقل أحياناً. لكن، ماذا عن حياتهم السياسية؛ تتوقف هنا أم تتواصل بأشكال جديدة؟ الأساس السياسي لا يتعلق بالحدث في لحظته الآنية، إنما بالنتيجة النهائية بعد سنوات. ومن هنا يبدأ النقاش الجديّ مع أحد النواب الذي يمكن وصفه بالحجرِ الأساسِ للحركة الاعتراضية، إذ يقول إن باسيل «يشرّع أبواب التيار أمام عاصفة افتراضية هوجاء يتطاير بنتيجتها الغسيل الوسخ في كل الاتجاهات. عملياً، هو لا مع الغرب مخلّص ولا مع الشرق، وفوق ذلك فتح معركة داخلية». لكنه – يتابع عن باسيل – «يحجز لنفسه في هذه اللحظة الداخلية – الخارجية الدقيقة حزباً له وحده، لا شريك له فيه أو مزاحم محتمل أو حتى شخص مزعج، بمعزل عن حجمه ودوره». وهو «تقصّد أن لا يكون لائقاً معنا بعدما حسم أمره قبل بضعة أشهر».
رسائل حاسمة وواضحة من حزب الله بعدم تدخله في شؤون التيار الداخلية وتمسكه بالبعد الأخلاقي قبل السياسي للعلاقة مع الرئيس عون
لكن، ماذا عن مصيرهم هم: محاولة أخرى لجمع العونيين من دون عون؟ تيار سياسي أو حزب أو حركة أو جمعية أو تعاونية أو لقاء أو كتلة نيابية أو مجموعة واتساب… أو لا شيء من هذا كله؟ كتّاب مذكّرات قيمة كما فعل آلاف الخارجين من أحزابهم قبلهم، أو تطوير مشروع سياسي كما لم يفعل أحد من قبلهم؟ أو الاثنان معاً؟ البكاء على الأطلال أو الاستمرار؟ يجدون لأنفسهم مبرر وجود، وطنياً – سياسياً – إنمائياً – اقتصادياً – اجتماعياً أم «باسيل، باسيل، باسيل» صبحاً وظهراً ومساء؟ لا أجوبة بعد لدى المعنيين الذين يحاولون السيطرة على انفعالاتهم أو ضبطها، محاولين الانتقال في هذه المرحلة من ردات الفعل إلى الفعل. وهو ما يفترض أن يفتح باب النقاش في ثلاث نقاط أساسية:
أولاً، المستقبل النيابي. من المسؤول الإعلامي السابق في التيار الوطني الحر الياس الزغبي إلى نائب رئيس الحكومة السابق عصام أبو جمرا، مروراً بصهري الرئيس عون السابقين سامي نادر وشامل روكز، وابن شقيقه نعيم عون وصديقه رمزي كنج، لعل المرشح السابق إلى الانتخابات النيابية في دائرة بيروت الأولى زياد عبس (أذكى من مر بتاريخ التيار) كان الوحيد الذي نجح في تجاوز «الدور الإعلامي» الذي يريده خصوم التيار من هؤلاء/ لحجز مكان سياسي متقدّم لنفسه في مطبخ «17 تشرين» وعلى لوائحها. وإذا كان عبس قد تقاسم الأصوات مع مرشحته النائب سينيتا زرازير ليحصل هو على 514 صوتاً وهي على 486 صوتاً، فإن أكثر الخارجين من البيئة العونية (لم يكن حزبياً) رمزيةً هو العميد شامل روكز الذي حمله العونيون على الأكتاف من نهر الكلب إلى نهر الموت بعد معركة نهر البارد، لكنه لم يحصل في انتخابات 2022 سوى على 623 صوتاً تفضيلياً في كسروان (رغم القدرات الكبيرة التي وضعها النائب فريد الخازن في تصرف اللائحة)، إضافة إلى 178 صوتاً للعوني السابق الآخر على اللائحة توفيق سلوم. في بعبدا، حصل نعيم عون على 566 صوتاً تفضيلياً، وزميله رمزي كنج على 228. وفي المتن حصلت الكاتبةُ العدلُ العونية السابقة رندا عبود على 198 صوتاً تفضيلياً. ونال جورج بدوي بطرس 23 صوتاً في بشري.
لا يهدف استعراض الأرقام هنا إلى التقليل من شأن هؤلاء، إنما القول إن خطاب الخارجين من الأحزاب يسلّي غير الحزبيين ومناصري الأحزاب المناوئة ولا يُترجم أصواتاً انتخابية، مع التأكيد أيضاً أن الحزبيين يلتزمون بقرارات أحزابهم، أما غير الحزبيين فأولوياتهم الانتخابية لا علاقة لها بالديمقراطية داخل الأحزاب والنظام الداخلي وغيرها من العناوين التي يركز عليها هؤلاء. ومنعاً للالتباس: مجدداً، لا يتعلق هذا بالعونيين فقط: لا تكاد توجد تجربة انتخابية مشجّعة واحدة يمكن التوقف عندها، إلا ظاهرة مسعود الأشقر الذي تجاوز «أمجاد الماضي»، ولم يأت يوماً على ذكر قيادتي القوات والكتائب حين أدار ظهره للتنظيمين، موطّداً علاقاته الاجتماعية في المقابل بمناصريهما ومحافظاً على كل ما يمكن من علاقات، بعكس معظم الظواهر الأخرى – العونية وغير العونية – التي سرعان ما تنتقل من مشكلها مع القيادة الحزبية إلى مشكل مع المحازبين.
وعليه، قد لا تكون رمزية ابن أخت الجنرال (النائب آلان عون) أكبر من رمزية ابن أخيه (نعيم عون)، لكن لا شك أن نفوذ آلان الانتخابي بعد تمثيله النيابي لبعبدا منذ عام 2009 أكبر من نفوذ نعيم، ولا شك في أن الموجة الجديدة من «المهاجرين» من التيار لها حضورها النيابي الفاعل، لكن التجارب الانتخابية السلبية السابقة للخارجين من أحزابهم لا تدفع إلى التفاؤل، ويفترض أن تحثّهم على وضع خطة عمل جدية تتعلم من التجارب السابقة.
يكفي في هذا السياق التذكير أن روكز، مثلاً، كان يفترض بينه وبينه نفسه ما يفترضونه هم اليوم، ويقول ما يقولونه، لجهة أن التيار لم يعطه في انتخابات 2018 أي صوت تفضيلي، وأن الأصوات الـ7300 التي حصل عليها هي أصواته هو، ليتبين عام 2022 أن حجمه 623 صوتاً تفضيلياً، وليس كما كان يتخيّل.
ثانياً، التموضع السياسي. خاض زياد عبس ونعيم عون ورمزي كنج الانتخابات النيابية الأخيرة جنباً إلى جنب النائبة بولا يعقوبيان في الأشرفية، وخليل الحلو (الصيدلي المتقاعد الذي يصول ويجول بين قناتي العربية والحدث محرّضاً على المقاومة بوصفه خبيراً عسكرياً) في بعبدا، من دون أن يتضح حتى اليوم ما إذا كانت تحالفاتهم الانتخابية تعكس تموضعهم السياسي الحقيقي. أما اليوم فعلاقة الثلاثي (تُقرأ رباعي) جيدة مع غالبية الأفرقاء، من الضاحية إلى واشنطن وما بينهما. لكن التواصل السياسي شيء، والالتزام السياسي شيء آخر، إذ كانوا قادرين حتى الأمس القريب على تحميل رئيس التيار المسؤولية عن الخيارات السياسية التي كانوا يتهمونه بالتفرد بها وعدم مشاورتهم، أما اليوم فالقرار قرارهم وسيكونون مضطرين إلى التموضع الصريح الذي تجنبوه في السنوات الثماني الماضية على الأقل. وعلى أساس هذا القرار، ستعيد غالبية الأفرقاء تصنيفها لهم. مع العلم أن التفكير بنقطة وسطية غير عقلاني، لأن الرأي العام وحرب المحاور لا يفسحان أي مجال للرمادية أو حمل العصا من وسطها. وإذا كان المشهد العام يوحي بأن مصلحة هؤلاء وعلاقاتهم وخطابهم تنبئ بتموضع سياسي في ظل بكركي أقرب إلى المرشح إلى رئاسة الجمهورية نعمة افرام، لا يقطع مع حزب الله ولكن لا يتناغم معه أو يتحالف أو يتبع له، فإن تخيّل النائب ابرايهم كنعان، مثلاً، ينتقل من «عند باسيل» إلى «عند افرام»، أمر غير منطقي أبداً. كذلك قد تكون لأبي رميا مصلحة انتخابية بالتحالف مع افرام، لكن ليست للأخير في المقابل مصلحة انتخابية في مثل هذا التحالف. إذ يمكنه في أيّ انتخابات مقبلة أن يستفيد من تضعضع التيار ليحصل لنفسه على مقعد في كسروان وآخر في جبيل. والأمر نفسه بالنسبة إلى الكتائب ونائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب في المتن: حصل المرشح الأرثوذكسي سمير صليبا على 3219 صوتاً تفضيلياً بقوته الذاتية في تجربته الانتخابية الأولى، مقابل 4050 صوتاً لبو صعب، وهو ما يفرض على رئيس حزب الكتائب سامي الجميل تعزيز الدعم لصليبا وتشجيعه على الإنفاق أكثر ليفوز هو والكتائب بالمقعد الثالث بدل أن يتحالف مع بو صعب ليفوز الكتائب بمقعدين فقط وبو صعب بمقعد. أما مع حزب الله، فلا بدّ من القول في ظل ما تتناقله بعض المواقع، أن التحالف الانتخابي بين الحزب والنائب آلان عون في بعبدا غير وارد اليوم، لأنه يعني أن الأمور وصلت بين الحزب والرئيس ميشال عون (لا باسيل) إلى ما بعد بعد اللاعودة، علماً أن الحزب أوصل قبل أسابيع رسائل حاسمة وواضحة بعدم تدخله من قريب أو بعيد في شؤون التيار الداخلية، وتمسكه بالبعد الأخلاقي قبل السياسي للعلاقة مع الرئيس عون. ومن يدقّق في نتائج بعبدا يرى أن الحديث عن المقعد في ظل الظروف الحالية وتوازناتها هو مضيعة حقيقية للوقت، لأن استمرار الخلاف بين التيار والحزب من جهة وقدرة الفريق الآخر على توحيد لائحتي ميشال حلو (13201 صوت) وخليل الحلو (5010 أصوات) في لائحة واحدة من جهة ثانية، يعني أن سيناريو جزين 2022 سيتكرر في بعبدا عام 2026.
ثالثاً، الديناميكية الفكرية والجسدية. لا شك أن المآخذ السلبية على ماكينة التيار الوطني الحر الحزبية والتنظيمية والسياسية والانتخابية والإعلامية والخدماتية محقّة بغالبيتها. لكن الوجود ضمن حزب لديه ماكينة رغم بؤسها شيء، وتحمل هذه المسؤولية كاملة شيء آخر، حتى ولو كانت للنواب مكاتبهم وتجربتهم. وتنبغي الاشارة هنا إلى أن خماسي كنعان – أبي رميا – عون – عون -عبس كان لديه نفوذه الكبير في التيار وخارجه حتى عام 2015، وكان هؤلاء ديناميكيين وقريبين من الأرض بمختلف مكوناتها، لكنهم انكفأوا بعد ذلك، وانشغلوا بالسياسة في أشكالها الأخرى. وهو ما يفترض أن يضعه هؤلاء اليوم على الطاولة ليسألوا أنفسهم إن كانت لديهم النية والقدرة والوقت والرغبة بالتنقل من بيت إلى آخر وملاحقة شؤون المناصرين وقضاياهم والرد على الهواتف وغيرها من عدة العمل التي يحترمها البعض منهم ويهملها بالكامل بعض آخر. ومع ذلك، لا يفترض التسليم بالأحكام المسبقة السلبية: لا بد من انتظار الشهور المقبلة للتأكد مما إذا كان باسيل العائق أمام استقطابهم للرأي العام وتوسيع حيثيتهم ومضاعفة أصواتهم التفضيلية أم هو مجرد عذر لتبرير الكسل أو الملل أو غيرهما.
أخيراً، مجمل ما سبق لا علاقة له بالعونيين فقط، إنما بكل الخارجين من أحزابهم: في الرأي العام، ثمة نسبة كبيرة جداً غير محزّبة ولا تعنيها الأحزاب وقد عبّرت مراراً وتكراراً في السنوات القليلة الماضية عن أن مستقبل البلد هو يعنيها لا الأحزاب، ما يفترض بالخارجين من أحزابهم أن تكون لديهم المعرفة والقدرة على مخاطبة هؤلاء لبناء قاعدتهم الخاصة لا الانشغال عنهم بمزاحمة الأحزاب على فتات الفتات أو محاولة مخاطبتهم بالأدوات السياسية التقليدية. وهو ما يعيد النص إلى بدايته: أمس واليوم مهمان، لكنّ غداً أهم؛ مراوحة أو خروج من التيار نحو آفاق واسعة جديدة؟ كتّاب مذكّرات كما فعل آلاف الخارجين من أحزابهم قبلهم أو تطوير مشروع سياسي كما لم يفعل أحد من قبلهم؟ البكاء على الأطلال أو الاستمرارية؟ يجدون لأنفسهم مبرر وجود، وطنياً – سياسياً – إنمائياً – اقتصادياً – اجتماعياً أو «باسيل، باسيل، باسيل» صبحاً وظهراً ومساء؟