يمرّ لبنان في هذه الأوقات بأصعب المراحل التي شهدها تاريخه، ومع ذلك فإن الحرية التي فيه تفتح رئتيه لتُبقيه حيّاً وكريم العطاء، ويتطلّع الى المستقبل مستفيداً من تجارب الماضي!
ندوات كثيرة تُعقد هذه الأيام! ولقاءات تجمع أهل الفكر يتداولون في الأوضاع، وبكثير من النقاء الفكري يبحثون عن الحلول! ويتداولون الأفكار ويستعيدون التجارب، كثيرون يلتقون ممن يجمعهم اكثر بكثير مما يفرّقهم.
حَضَرْت وشارَكْت في ندوة أخذ مبادرتها السفير خليل الخليل، وضمّت نخبة من أهل الفكر: عمر الزين (أمين عام سابق لاتحاد المحامين العرب)، راشد صبري حمادة، الوزير السابق جوزف الهاشم، المحامي محمد مطر (محامي الحريري)، وغيرهم…
اتفقوا على أن يكونوا منبراً، ويكون التجمع حارساً لهذا المنبر، وأن يتوجهوا الى الشباب، وشباب الجامعات بنوع خاص، ففي هذا الوسط يولد لبنان جديد.
وتطرح الأفكار: الحرية هي وحدها التي تحصّن لبنان! هل القضية الفلسطينية وحدها يجب أن تشغل العالم العربي، أم ان هموم أخرى اقتصادية وفكرية وثقافية يجب أن تشغله مع القضية الفلسطينية؟ والحرية يجب أن تشغل العالم العربي وهي باب الحياة للخروج من التخلّف الذي يعاني منه العالم العربي.
مشكلة العالم العربي انه محكوم من المخابرات، وأي تنظيم فكري أو عقائدي هو على اتصال بالمخابرات في العالم العربي، فالمجتمع السياسي والفكري الى جانبه مجتمع مخابرات، الذي يضع يده على كل تحرك فكري! كثيراً ما يُطرح هذه الأيام وفي كل الندوات «سايكس بيكو»؟ في القرن العشرين فإن تقسيم الإرث العثماني في الشرق الأوسط بمقتضى معاهدة «سايكس بيكو» كان في حقيقة الأمر تقسيماً للشام: من المنتصف الى الشمال سوريا وفي حضنها وليس في قبضتها –لبنان- وفي الجنوب فلسطين مقسمة الى ثلاثة كيانات: دولة يهودية (بمقتضى وعد «بلفور»)، إمارة في شرق الأردن (بمقتضى العلاقة الخاصة بين الإنجليز والهاشميين)، ثم محمية في بقية فلسطين (بمقتضى الإحتياجات العسكرية المتوقَّعة للامبراطورية البريطانية بعد انتهاء الحرب، خصوصاً في الخليج).
كل نظام سياسي في البلاد العربية لديه مخابراته، إلّا لبنان، يعيش بالحرية، لهذا فإن الإتجاهات والتجمعات والندوات متعددة مختلفة وكثيرة وهي كلها حرّة. ولكن مشكلة لبنان الطائفية التي تطبق النظام القبلي.
في هذه الندوة التي حَضَرْتها طُرِحت أفكار كثيرة:
أحد المشاركين طرح ما شهده بين رجل مُقَرَّب من المخابرات السورية وماجد حمادة. قال رجل المخابرات لماجد صبري حمادة ان النظام السوري يَكنّ لماجد حمادة كل تقدير واحترام ومحبة، فلماذا لا يبادله ماجد حمادة بالمثل؟ روى ان ماجد حمادة أجابه: حين يكون التقدير والاحترام والمحبة لبلدي، إذ ذاك يصلني حقي وأتصرّف على هذا الأساس.
الجيل الجديد ينبع في داخله لبنان جديد، وإليه يجب أن تتجه الأنظار، وهو الذي يجب أن يخاطبه هذا التجمع عبر المنبر.
العالم الذي نعيش فيه آخذ بالتخلّي عن إسرائيل، والدليل ان الجيل الناشئ في الجامعات الأوروبية والأميركية تظاهر بقوة مع القضية الفلسطينية، أما التظاهر في البلاد العربية فقد كان قليلاً بالمقارنة مع تظاهرات الغرب.
ووقف أهل التجمع أمام رفع العلم الفلسطيني وسط البرلمان الفرنسي!
وشدّدوا على قيمة الحرية التي تسود في لبنان! وهي ركن ثباته وباب خلاصه!
وركّزوا على الكثير الذي يجمعهم والقليل الذي يُفرّقهم، ووجدوا انهم مع اختلاف منطلقاتهم، يمكن أن يكونوا تجمّعاً فاعلاً بالكثير الذي يجمعهم.
واتفقوا على أن يدعموا التجمعات القريبة في أهدافها منهم، ويتقرّبوا منها للوصول الى كرة الثلج التي تكبر وتكبر الى أن تأخذ في دربها كل العوائق التي تشلّ نهوض البلد.
ولكن الحرية ليست الفوضى، نحن نعيش في الفوضى، والمطلوب هو الحرية التي تقوم على المسؤولية، الفوضى تُتيح للقبائل الطائفية أن تتلاشى قواها!
سليمان فرنجية انتخب رئيساً للجمهورية على صوت واحد، كانت تلك أيام الحرية.
في الفوضى التي نعيشها هذه الأيام، وهذه الفوضى هي التي تفتح الطريق أمام مخابرات الدول، والقبائل تذهب الى من يرعاها من الدول، والفوضى التي نعيشها، تجربة شبيهة بألعاب «اللونا بارك»، «سيارات صغيرة تتصادم على أرضية مُكهربة، وعربات معلَّقة على شكل خيول وطيور تلف حول محور، واراجيح ترتفع وترتد براكبيها، ثم تلك اللعبة التي يسمونها «القطار الروسي» تصعد بركابها كأنها في الطريق الى قمة جبل ثم تهوى بهم كأنهم الى عمق قاع. وهكذا».
هكذا تعيش الحرية في لبنان هذه الأيام، والنزوح السوري كله كله خيول، ترتفع وترتد براكبيها، في عزّ الثورة السورية، رحّبت الحرية في لبنان ببضع مئات ألوف من النازحين الهاربين من بطش الأسد، كما في كل البلاد المحيطة بسوريا من الأردن الى تركيا الى لبنان.
ولكن النازحين في تركيا والأردن، كانوا بضع مئات من الألوف، إلّا في لبنان، الحرية جعلتهم مليونان وأكثر، وصارت مشكلة لبنان النازحين، مشكلة تُضاف الى مشاكل القبائل الطائفية.
كنا بشيء صرنا بشيء آخر، كنا بدعم الثورة السورية وتخفيف العذاب عن الشعب السوري، صار لبنان كله في مهب رياح النزوح، أكثر من نصف شعب لبنان ضيوف على لبنان، وصار لبنان بخطر، صارت العربات معلقة على شكل خيول، والقطار السوري يصعد بركّابه في الطريق الى قمة جبل، ثم يهوى بركّابه وكأنهم الى عمق قاع.
هذه ليست الحرية ولا هي نزوح.
كان النزوح خدمة يقدمها اللبنانيون للسوريين، تحوّلت الى نقمة تهدّد كيان البلد ووجوده.