جواب طبيعي، ويجب توقّعه من سوريين مؤثّرين، عندما تطرح عليهم الأسئلة حول ما يجري على الأرض منذ إعلان سقوط نظام البعث. طبعاً، لا يقدر أحد على الإحاطة بعد بكامل المشهد. وكل ما تحصل عليه من وسائل الإعلام المنتشرة في سوريا، يقودك الى الزنازين التي شرّعت، أو الى احتفالات الناس، لكنّ أحداً لن يأخذك في رحلة الى الغرف المغلقة، علماً أن ملاحظة يجب إيرادها، حيث يظهر أن قلّة من وسائل الإعلام، تحاول تغطية الاجتياح الإسرائيلي لجنوب سوريا، أو توفير مساحة لتغطية العدوان الذي لم يترك منطقة دون استهداف.
المشهد السوري اليوم، يعجّ بإعلام الكرة الأرضية كلّها. طبعاً، هناك إعلاميون سوريون. لكن ليس هناك من إعلام سوري. ولن ينتظر أحد منّا إعلاماً كان يعمل مع النظام في دمشق وهو يعمل الآن بحرية أو بشكل عاديّ، لكن الإعلاميين السوريين الذين عادوا الى دمشق كلهم يعملون في مؤسسات معارضة لنظام الأسد. وبالتالي، سيكون من الجنون أن تجد في الشارع صحافياً سورياً مختلفاً مع القادمين الى دمشق من فاتحين. ومن يتجرّأ على قراءة المشهد من زاوية حذرة، لن يجد منبراً داخل سوريا ينشر له مقالة أو تصويراً أو حتى فيديو سريعاً. حتى خارج سوريا، سوف تتردّد الوسائل الإعلامية في التفاعل مع أصوات معارضة للحكم الجديد. ما يعني أن على من هم خارج سوريا انتظار المزيد من الوقت، قبل أن يعاد إنتاج إعلام سوري خالص، وقادر على معاينة كل الأوضاع، ومقاربة الملفات بدرجة مقبولة من المهنية.
المشكلة لا تتعلق بعدم اكتمال المشهد الإعلامي، لأن من السذاجة الاعتقاد بوجود وسيلة إعلامية تخالف الإجماع القائم على «حسن تصرّف» الفصائل المسلحة، علماً أنه قد يكون أمراً مفهوماً التعامل مع بعض الأعمال التخريبية على أنها نتائج طبيعية لحالة الفوضى التي قامت بعد انهيار جيش النظام وأمنه وشرطته. لكن الصورة الكاملة ستصبح مطلوبة، عند بدء التدقيق في انحيازات الناس السياسية. وهي انحيازات ستظهر تباعاً. وإذا خرج علينا من يدعونا الى عدم انتظار أيّ صوت مختلف، فهو من الفريق الذي يعتقد بأن الجمهور سيقف مع الملك الجديد، علماً أن تجارب كل الدول التي عاشت تحوّلات بهذا الحجم خلال العقدين الماضيين، تقول باستحالة «استراتيجية الحجب». حتى نظام الأسد نفسه، والذي لم يكن يخجل بعدم تنوّعه، كان يعرف أنه لا يقدر على حجب الصورة كاملة. لكنه كان يفرض نمطاً من التفكير عند الناس، بحيث يجبرهم على عدم القيام بأمر قد يعرّضهم للخطر. واليوم، قد يكون علينا انتظار وقت طويل قبل حصول التغيير. لأن المواطن السوري نفسه، حتى من دون صدور تعليمات جديدة، سيظلّ يتصرّف على أن أيّ محاولة لقول ما يخرج عن «الإجماع السائد»، سوف يعرّضه للعزل إن لم يكن لأكثر من ذلك. فكيف نريد منه المحاولة، وذاكرته عن المسلحين مليئة بصور أقوى من تلك التي تظهر خلال هذه الأيام؟
المقصود هو الإشارة الى أن فكرة الحرية، التي شكّلت أساس الاحتجاج على النظام السابق، تعني أن الناس يريدون قبل التغيير الشامل أن يعبّروا عن رأيهم بما يحصل، وهم يريدون أن يستخدموا التعبير وسيلة للاحتجاج أو الضغط لأجل التغيير. ومن فقد الأمل بإمكانية ذلك مع النظام السابق، اختار الهجرة والكلام عن بعد، أو انخرط في المجموعات التي نجحت في إسقاط النظام. وبالتالي، فإن ما شاهدناه خلال 13 سنة، من تصريحات وكتابات ومقابلات وأفلام وتقارير أعدّها معارضون لنظام الأسد، وانتشرت على كل وسائل الإعلام في المنطقة والعالم، قد لا نعود لنشاهد ما يماثلها اليوم من داخل سوريا. والسبب بسيط، هو أن الحكم الجديد، وحتى قبل أن يستقر على شكل مؤسسات وقوانين، لن يظهر أنه متسامح كفايةً أمام نقاش نقدي معه. وإذا كان من حقّه أخذ الفرصة للتثبيت قبل الحكم عليه، فإنه يعطي إشارة مقلقة إذا ترك للناطقين باسمه استسهال اتّهام أي مختلف معهم بأنه من «الفلول»، وهي عبارة يخشى أن تصبح أداة قمع كل صوت يعترض أو يسأل عما يحصل.
وبالتالي، فإن السؤال حول الحريات سيكون موجّهاً، بالدرجة الأولى، الى النخب وإلى صنّاع المحتوى الذين كانوا فعلياً عرضةً لقمع النظام السابق، إذ يفترض بهم أن يقدّموا للناس دليلاً على أن التغيير الذي حصل كسر، وإلى الأبد، حاجز الخوف من الحاكم… أيّ حاكم!