Site icon IMLebanon

حرية .. إبداع .. رفاهية كمنظومة قيم بدل الشعارات الفارغة

حرية .. إبداع .. رفاهية كمنظومة قيم بدل الشعارات الفارغة

«جاز الألى أن ملكت كفاك قدرهم فعرفوا بك أن الكلب فوقهم سادات كل الناس من نفوسهم وسادة المسلمين الأعبد القزم أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم» (المتنبي)

في محاضرته الشهيرة سنة في جامعة السوربون، عرّف «أرنست رينان» الأمة بأنّها «تعبير عن رغبة ومشيئة الشعوب في العيش المشترك بناءً على ما يجمعها من تراث وتاريخ».

أما النظرية الألمانية فتعتبر أن اللغة والثقافة الواحدة هي أساس وحدة الأمة. 

أما الفكر الماركسي فهو يعتبر أن المصالح الاقتصادية وتشابكها وتماسك أركانها هي أقوى عامل في وحدة الأمة. 

حول الأمّة والقومية

عرضت هذه النظريات للتأكيد على عدم وجود تحديد علمي كامل لمبدأ الأمة، وإن كان معظم الباحثين يربطون اليوم مبدأ الامة بالوحدة السياسية، أو الدولة ذات الحدود المعترف بها. أتت اليوم حقبة «ما بعد الحداثة» ورافقتها ثورة التواصل بين البشر بمختلف أشكالها، فنشأت لغة مشتركة جامعة، وتشعبت العلاقات الاقتصادية العابرة للحدود والقارات، لتضع كل النظريات التي اجتاحت القرنين الماضيين حول مفهوم الأمة والقومية على حفاف سلال المهملات كحقبة من التاريخ مثلها مثل عهد المشاعية البدائية مروراً بمختلف أشكال الاجتماع الإنساني من زراعية إلى رحالة إلى نشوء الممالك والإمبراطوريات إلى مجتمع المدن. 

حول الدوغمائية

لن أدعي الرؤيوية، ولا أسعى إلى التنبؤ بمستقبل الاجتماع الإنساني، فهو بالتأكيد سيكون نتاج جدلية قد يكون فيها بعض النمطية التي تتحكم في مسارها أعداد هائلة من «الأوزات السود» بحسب النظرية العبثية…

ما لي أنا وهذه الأفكار، فما أريد أن أقوله هو أن «الدوغمائية»، أي الفكر اليقيني، هو الذي يعتبر أن فكرة ما، وقد تكون عبقرية ومبدعة في فترة من الزمن، هي أبدية سرمدية، وغير قابلة للنقض، والأسوأ عندما تتحول إلى نبوءة تتحدّث عن «نهاية التاريخ» كما تنبأ «يوشيهيرو فوكوياما» بعد سقوط حائط برلين، أو «حتمية انتصار البروليتاريا» كما أكد «كارل ماركس»، أو تلك الأفكار التي تتوقع نهاية العالم في شكل من الأشكال. 

إحدى اليقينيات هي التي اعتبرت أن القومية هي حقيقة ثابتة أبدية سرمدية لها قواعدها العلمية والتاريخية، مع العلم أن كل جهود علماء النازية باءت بالفشل في محاولتهم توثيق قوميتهم بشكل علمي. وفشلت أيضاً كل جهود علماء الآثار في إسرائيل، وباعترافهم، في إيجاد ما يثبت صحة أصول قوميتهم في مملكة داود. 

حول فكرة القومية 

من نافل القول إن فكرة المواطنة عرفت انطلاقتها مع الثورة الفرنسية، ووجدت طريقها إلى مصر بعد حملة نابوليون عليها، حيث حاول استكشافها محمد علي باشا وتطبيقها في بلده، ولكن هذا المنطق لم يصح في ظل استمرار حكم الاستبداد، أي حكم الأسياد للعبيد لأن المواطن أساس المواطنة وليس العبيد. 

المحاولة القومية الثانية كانت مع اجتهاد المعلمين بطرس البستاني وناصيف اليازجي في لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين، مستلهمين الفلسفة الألمانية على الأرجح في دور اللغة في تماسك الأمة، فتم التركيز على اللغة العربية وتعليمها وإعادة إحيائها في مواجهة التتريك في تلك الأيام. 

كانت تلك المحاولة من مسيحيين في المشرق لإيجاد قواسم مشتركة مع المسلمين خارج إطار منطق الأمة المستند إلى الإسلام. لم يسلم هذا المسعى من الاتهام بأنه «مؤامرة صليبية» على المسلمين، ونعتها البعض بالحركة «الشعوبية» وهي تشبه الفتنة !

أما في أوروبا فقد أطلق تسمية «النزعة القومية» الزعيم الإيطالي جوسيبي مانزيني سنة وكان لهذه الفكرة تداعياتها الأساسية في توحيد إيطاليا بجهود جوسيبي غاريبالدي وفي توحيد ألمانيا بقيادة أوتو فون بسمارك.

حراك العرب القومي

كان على العالم العربي أن ينتظر بداية القرن العشرين وقرب نهاية الخلافة العثمانية لطرح أفكار مبعثرة حول الوطنية والقومية، معظمها عاطفي ومن دون بعد علمي أو فلسفي منطقي. استمرت هذه المحاولات خلال النصف الأول من القرن الماضي وكان روادها قسطنطين زريق وساطع الحصري وعصمت سيف الدولة وغيرهم، وقد تصادمت أفكارهم في لبنان ومصر على الأخص بتوجهات ورؤى وطنية إقليمية لا مجال الآن لشرحها وتفصيلها. 

في أواسط القرن العشرين كان في المشرق العربي ثلاثة توجهات قومية عقائدية وحدوية، التوجّه الأول كان حركة «انبعاث الأمة العربية»، والثاني «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، والثالث «حركة القوميين العرب»، وقد تحاربت تلك الحركات في ما بينها ومن ضمنها، وتشظّت وهدرت أنهاراً من الدماء أثناء صعودها وسقوطها وفي تشظّيها إلى انشقاقات خوّنت بعضها البعض فقتلت وسحلت وسجنت مناضليها أثناء مسيراتها المشينة.

حول «البعث»

ميشال عفلق الأرثوذوكسي الدمشقي عاد من جامعة السوربون حاملاً أفكار جوسيبي مانزيني حالماً أن يكون هو «غاريبالدي العرب».

في العام عمل كمدرس ونشر أفكاره في أوساط الشباب والطلاب ومن هناك أصبح ناشطاً سياسياً بين المثقفين. في سنة اتحد حزب «انبعاث الأمة العربية» الذي كان يقوده عفلق مع «الحزب الاشتراكي» بقيادة أكرم الحوراني ليصبح «حزب البعث العربي الاشتراكي».

اقتصرت الرؤى السياسية والعقائدية على مجموعة من الشعارات ذات المضمون العام مثل «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» والثالوث المقدس كان «وحدة، حرية، اشتراكية»، وبقيت هذه الشعارات فارغة من المضامين العلمية في السياسة والاقتصاد، فتأرجحت القيادة بين المواقف الشعبوية والموجات الجماهيرية إلى أن وقعت في قبضة العسكر وأصبحت المنظومة الحزبية أداة في يد الديكتاتور وزبانيته. 

لم يتفق البعثيون على رسالة البعث الخالدة ولا على خارطة طريق لتحقيق الأهداف في الوحدة والحرية والاشتراكية ما عدا سلسلة من الانقلابات العسكرية والانشقاقات الحزبية، وانقسم البعث ومن بعدها انقلب الرفاق على بعضهم، فأعدم من أعدم وقضى قادة بقية حياتهم في السجن أو المنفى.

أما منظومة القوميين العرب فقد تناثرت وبقي فيها بعض الحالمين المتعلّقين ببعض الآمال الصادقة أو الأفكار الأسطورية فيجدون توازنهم النفسي من خلالها مع علمهم بخواء مضامينها، وأعلم هنا أنني سأغضب الكثير من الأصدقاء بهذا الاستنتاج!

لماذا كل هذا الكلام الآن؟

لأن الوقائع التي نعيشها اليوم تنبئ بحاجة وحتمية الانتقال إلى منظومة قيم غير التي كانت قائمةً بعد أن أثبتت ليس فقط فشلها في تحقيق أهدافها، بل لأنها تسببت بكارثة على إنسانها وأدخلته في يأس مرعب جعله يرتد إلى الردة والخيارات الانتحارية بعد فشل كل العلاجات. ما التطرف الداعشي اليوم إلا أحد مظاهر الجنوح نحو الانتحار، كذلك هو الوضع السوري والوضع في غزة والعراق وليبيا وربما في لبنان. 

إن الكيانات التي صنعها سايكس بيكو لم تصمد موقتاً إلا على حساب حرية وأمان واستقرار ورخاء البشر، من خلال تولية وحوش لا رحمة لهم عليها، يشبهون في إدارتهم السلطة سلاطين بني عثمان في فترات الاستبداد، وأحياناً المغول في غزواتهم الوحشية على القيم الحضارية. إن أي نظام إقليمي جديد يجب أن يكون مبنياً على إسعاد الناس وأن يزرع الأمل في الحياة الدنيا حتى لا تستبدل بالسعي إلى الآخرة. 

لا يمكن التعامل مع هذه الخيارات الجديدة بالشعارات الخشبية التي أثبتت فشلها، وبدل ثلاثيات مثل «وحدة وحرية واشتراكية»، أو «جيش شعب ومقاومة» علينا أن نقول «حرية، إبداع، رفاهية».