ما إن أعلنت المديريّة العامّة للأمن العام في 8 تشرين الثاني 2015 عن إلقاء القبض على أوّل نازح سوري ثبت تواصله مع العدوّ الإسرائيليّ بالإضافة إلى زوجته المنتمية إلى «حركة اليسار الديمقراطي»، حتى بدأت حملة التّشهير بالأمن العام «افتراضياً». قيل الكثير حينها عن براءة المتّهمين رامز السيّد وزوجته سلام شكر. المشكّكون في حينه كانوا مؤمنين أنّ تهمتهما «مجرد تركيبة» بغية الانتقام منهما بسبب معارضتهما للنّظام السوريّ.
لم يكن بالإمكان حينئذ التأكّد من صحّة الكلام الذي نطق به الرّجل وزوجته خلف جدران «المديريّة». لا دليل على تورّطهما إلا ما وزّعه الأمن العام في بيانه. البعض رفض التّصديق واستمرّ بالاعتقاد بأنّها «مؤامرة»، مؤكّدين أنّ «الاتّهامات الملفّقة أتت نتيجة الضرب والتعذيب». وحينما مثل المتّهمان أمام قاضي التحقيق العسكريّ، بدأت الأصوات تخفت.
بالأمس، لم يعد هناك مجال للشكّ. وقفت سلام شكر أمام قوس المحكمة العسكريّة تدافع عن نفسها، هي التي وصفت نفسها بـ «المناضلة ذات التاريخ المضيء». حاولت الموقوفة أن تحوّل انتماءها إلى «الحزب الشيوعي اللبنانيّ» و «حركة اليسار الديموقراطي» وعلاقتها بجورج حاوي ثمّ شقيقه بهيج وقربها من «الرفيق» الياس عطالله إلى «صكّ براءة».
ولكنّ هذه البراءة لم تدم طويلاً. بل عادت لتجاهر على الملأ بأنّها كانت تعلم بالتّكليفات المعطاة إلى زوجها بمراقبة الشيخين ماهر حمّود وصهيب حبلي تحضيراً لاغتيالهما وإعطاء معلومات عن مراكز «حزب الله» والجيش اللبناني و «سرايا المقاومة» وتصوير هذه المراكز لإرسالها إلى «الموساد»، بالإضافة إلى تصوير بعض المناطق الحدوديّة تمهيداً لدّخول السيّد إلى فلسطين المحتلّة عبر «الجدار الطيّب» في بلدة رميش الحدوديّة بغية الاجتماع ببعض ضباط «الموساد».
ما أكّدته شكر في إفادتيها الأوليّة والاستنطاقيّة واللتين تطابقتا مع إفادتي زوجها بشأن علاقته بالعميل اللبنانيّ طنّوس الجلّاد، هو من أبرز النقاط التي تراجعت عنها خلال استجوابها من قبل رئيس «العسكريّة» العميد الرّكن الطيّار خليل ابراهيم.
نفت الموقوفة أن تكون هي صلة الوصل، وإنّما ألصقت المسؤوليّة بـ «الفايسبوك» الذي يظهر الأصدقاء المشتركين من دون أن تعلم من أرسل طلب الصّداقة لمن (السيّد أو الجلّاد).
وإذا كانت شكر قد نفضت يديها من مسألة تعريف زوجها على «الموساد»، فإنّ ذلك لم يمنعها من تسجيل «سقطة» في اعترافاتها عندما لفتت الانتباه إلى أنّها وطّدت علاقتها بالجلّاد عبر «فايسبوك» في العام 2012 معتقدةً أنّه مواطن لبنانيّ مهاجر إلى فرنسا، وحتى أنّها طلبت منه مبلغاً مالياً كمساعدة إنسانيّة. وبعد فترة، أخبرها الرّجل بأنّه عميل لـ «الموساد» مقيم في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
ومع ذلك، لم تعمد «المناضلة» إلى حذفه عن صفحتها على «فايسبوك»، وإنّما أبقت على صداقته لأكثر من ثلاث سنوات. لماذا؟
كانت الإجابة عن هذا السؤال أشبه بـ «نكتة» أضحكت الحاضرين، إذ أشارت سلام شكر إلى «أنني انشغلت بموضوع الكيماوي في سوريا ونشر التعليقات حوله ونسيت أعمل بلوك للجلّاد. وهذا خطأي الوحيد»!
هذه الإجابة التي بدت غير منطقيّة أعادتها شكر مرة ثانية عندما سئلت عن سبب عدم إخبار السّلطات اللبنانية بما طلبه الجلاد من زوجها برغم تحذيره من أمر تورطه مع «الموساد» والاتفاق معه على إبلاغ الأجهزة الأمنية بالموضوع نظراً لخطورته. ولذلك، أكدت الموقوفة أنها كانت على وشك إخبار الأجهزة الأمنية بأن «الموساد» بدأ بخطواته التنفيذيّة لاغتيال حمّود والتخطيط لقتل آخرين، «ولكننا انشغلنا بالحياة العامّة ووضعنا الاقتصادي الصّعب»!.
وأنكرت شكر أن يكون زوجها قد أعلمها بتخطيطه لدخول الأراضي المحتلّة لمقابلة ضباط «الموساد»، لافتةً الانتباه إلى أنّها اعترفت بتكليف «الموساد» لزوجها بمراقبة موكب المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم «تحت الضغط والتعذيب».
وشدّدت على أنّ زوجها أخبرها فقط بأنّ الجلاد طلب منه مراقبة المراكز العسكريّة مقابل المال الذي سيدفعه لعلاج والدته، فاقترح السيّد مراقبة تحرّكات الشيخين حمود وحبلي باعتبارهما يسكنان بالقرب من مكان عمله، نافيةً أن يكون «كرهها لحزب الله والنّظام السوري قد دفعها أو دفع زوجها للتّعامل مع إسرائيل».
وعن سبب تلقيها صوراً من زوجها من رميش، أشارت إلى أنّه قال لها أنّه في جزين فطلبت منه إرسال صور لأنّها لم تزر جزين من قبل، مؤكّدةً أنّها لم تر صديقه الموظّف في «اليونيفيل» هاني مطر إلّا مرتين ولا تعرف شيئاً عن علاقتهما إلّا أنّهما كانا يخرجان لتناول الغداء في الجنوب كلّ يوم أحد.
باحت شكر بكلّ ما في جعبتها، ما يبرئها وما يدينها على حدّ سواء، ولكن قبل أن تترك المنصّة وتفسح المجال لأن يقترب المتّهم الثاني هاني مطر، سألها رئيس المحكمة عمّا كانت قد بدأت به حديثها عن نضالها وتاريخها المضيء. غيّرت الموقوفة آراءها لتعترف أنّ ما اقترفته هو «نقطة سوداء في نضالي».. لتعود وتصحح «في مكانٍ ما..»!
انتهت شكر وخرج موظّف «اليونيفيل» من خلف القضبان وتقدّم نحو قوس المحكمة مُنهكاً، بالكاد فهم منه الحاضرون ما يقوله عندما نطق باسمه. سريعاً، حضرت إلى ذاكرة العميد ابراهيم مشهد «هاني» في مسرحية «فيلم أميركي طويل». لم يكن ينقص «هاني الحقيقي» إلّا أن يقول «بأمركن يا خيي».
ولكن هذا المشهد معطوفاً على كلام وكيل الدّفاع عن مطر المحامي صليبا الحاج بتدهور وضعه النّفسي، لا يبدو أنّه أقنع العميد ابراهيم الذي استبق الأمور بإبراز تقرير طبي يؤكّد أنّ الموقوف «لا يعاني من أيّ مشاكل صحيّة أو نفسيّة ولا مانع من دخوله المحكمة العسكريّة واستجوابه أمامها». تماماً كما لم يقتنع رئيس «العسكريّة» حينما سأل مطر عن العديد من أقربائه الموجودين في إسرائيل بسبب تعاملهم مع «جيش لحد»، ليسارع الموقوف إلى تصحيح كلمة «إسرائيل» بـ «فلسطين المحتلّة».
لم يأتِ مطر بأي جديد طوال فترة استجوابه، بل أكّد أنّه لم يكن على علم بعلاقة الجلّاد مع السيّد وإنّما فاتحه الأخير في إحدى المرّات عن تعرّفه على الجلّاد عبر «فايسبوك»، فما كان منه إلا أن نصحه بضرورة الابتعاد عنه لأنّه عميل وقد يسبّب له المشاكل، معتذراً لأنّه استخدم وظيفته في «اليونيفيل» لـ «تأمين الحماية للسيّد بإدخاله إلى قرى الشريط الحدودي من دون إذنٍ مسبق باعتباره غير لبناني».
كلّ شيء بالنسبة لمطر كان «صدفة وليس مبرمجاً»، بما فيه أمر إدخاله إلى رميش وعين إبل لالتقاط الصور ومنها صور منزل الجلّاد في رميش «من دون علمي» بأنّ السيّد كان يرسلها إلى «الموساد». وعن السبب، يؤكّد الموقوف أنّه كان يريد أن يعرّف صديقه على قريته «لحسن الضيافة».
وعن سبب نقل السيّد إلى رميش وتحديداً إلى «الجدار الطيب» (معبر رميش)، لم يعط هاني مطر إجابة مقنعة. في البداية أشار إلى أنّها «على طريقه» ليؤكّد له العميد ابراهيم أنّها ليست كذلك، فبادر الى التمتمة بكلمات غير مفهومة ليعود ويؤكّد أنّ «الأمر ليس متعمّداً، كان قصدي الضيافة فقط».
وعليه، فقد حاول مطر أن يبرئ نفسه من تهمة التدخّل في جرم التواصل مع العدوّ الإسرائيلي، فيما بقي السيّد خلف القضبان يستمع لإفادتي زوجته وصديقه من دون أن يتمكّن من الإدلاء بإفادته قبل الجلسة المخصّصة لذلك في 20 تمّوز المقبل.