Site icon IMLebanon

الحرية هي فائض العبودية

إنّ ما شاهدناه خلال الأيام الماضية هو الصورة الوطنية الحقيقية للمجتمع السياسي الطائفي اللبناني وليس للطبقة السياسية، لأنّ هذه الطبقة هي ممثل حقيقي للأكثرية الطائفية في لبنان، ولا يجوز ابداً أن نعتقد أنّ هذه الطبقة السياسية لا تمثّل الغالبية العظمى من اللبنانيّين. فالطائفية السياسية تقدّم نموذجاً مريحاً لغريزة العبودية عند البشر، والعبودية هي الحاجة الأولى أمّا الحرية فهي فائض العبودية.

نعم العبقرية هي في انتاج نموذج متطور للعبودية. لذلك، بحث الإنسان منذ الوجود الأوّل على أمر أو شيء أو ظاهرة أو قوّة أو غيب يعبده، وهذه حاجة مستدامة ومتطورة باستمرار.. الى أن كانت إرادة الله عزّ وجلّ فارتقت بالانسان عبر الرسالات السماوية، من عبادة ما يخافون أو ما يحبّون أو ما يجهلون الى عبادة الله الواحد، وأسّست لمنظومة قيم تستوعب غريزة العبودية وتدجّنها، ولتجعل من الحرية حاجة إنسانية وفضيلة تعبّر عن ذاتها في العلم والبحث والإبداع والتنوّر. وكانت غريزة العبودية تتعاظم اخضاعاً وخضوعاً عند البشر عندما يتغوّل بعض البشر على القيم السامية فتسود العبودية وتنعدم الحرية..

جاءت فكرة الدولة لتقدّم حلاًّ متوازناً للعبودية، فأخذت من الأديان القيم الأساسيّة بالاضافة الى القيم المجتمعية المتراكمة التي تشكّل الخصوصية الأخلاقية للمجتمع أو ثقافته بالمفهوم الأصلي للثقافة، أي تراكم القيم المجتمعية التي تشكّل رابطاً ورادعاً وثقافة فتصبح الثقافة ثقافة. لذلك فالدولة في أصل فكرتها هي توازن دقيق ومرن بين منسوب العبودية ومنسوب الحرية.

إنّ ما نشهده في لبنان ليس فائض حرية كما يعتقد الجميع، بل هو انهيار لمنظومة العبودية التي كان من المفترض أن تتجسّد في الدولة، أيّاً كان حالها، وهذا ما نسمّيه بلطافة «النظام العام»، أي التسليم بالقيم المشتركة التي تكوّنت على أساسها الدولة. من هنا، فإنّ الشائع في لبنان هو العبوديات المتعدّدة، وهذا هو جوهر الطائفية السياسية في لبنان. والعبودية الطائفية لا تعترف بفائض الحرية الذي أقرّته الأديان أو الدول، فالطائفية تقوم على عبودية الخوف من الحرية.

إنّ الحرية في أصلها هي عبودية للحقيقة وهي نسبية، ولهذا تكاد تكون الأزمنة التي ساد فيها ذلك التوازن قصيرة جداً، إلاّ أنّ النظم الحديثة الديمقراطية، بما هي أرقى الأنماط لتلبية الحاجة الضرورية للعبودية، قد سمحت للحرية بأن تحدّ من تغوّل العبودية، وهي في عملية تفاعل مستمر يرتفع فيها منسوب العبودية في أزمنة الخمود والكسل والفشل السياسي، إلاّ أنّها تمتلك أدوات تجاوز الأزمات مع توالد إرادات جديدة خلاّقة ومنتجة.

إنّ الطائفية السياسية في لبنان هي المولِّد الحقيقي لاتفاق القاهرة الذي يعتقد اللبنانيّون أنّه كان سبباً في دمار بلادهم. وهذا أمرٌ واقعيّ ولكنّه غير دقيق لأن الطائفية السياسية اللبنانية هي مجموعة من اتفاقات القاهرة التاريخية في الصيغة اللبنانية، أي بمعنى أوضح هو أن كلّ طائفة هي دولة داخل الدولة، أي توزيع العبيد الطائفيّين على أسياد الطوائف، من زعامات وعائلات الى احزاب طائفية، مما حوّل فكرة الدولة الواحدة الى مجموعة ممالك.

إنّه أمرٌ بدائي جدّاً وخرافيّ الى حدّ بعيد، خصوصاً عندما نسمع عن فشل الدولة المركزية التي لم تقم أصلاً ومن الأساس، لأنّ النظام الطائفي هو نقيض فكرة الدولة بكلّ أنماطها بما فيها الدولة المركزية . ولا داعي للبحث عن أسباب رفض الدولة المركزية للتجربة المدينية المركزية التي حفظت التوازن بين احترام النظام العام، أي العبودية، وبين الحرية.

ولذلك، نستطيع أن نؤكّد وجود تجربة وطنية مركزيّة مدينيّة في بيروت فقط وبدون نقاش. ولذلك كانت تأتي الطائفية تباعاً الى بيروت لتدمير هذه التجربة البيروتية الانسانية والأخلاقية والثقافية بما هي نواة الدولة الوطنية ، وآخرها غزوة النفايات الطائفية  لبيئة الحرية والانتظام العام البيروتية.. نحتاج الى عبودية راقية، فيها ما يكفي من فائض الحرية..