Site icon IMLebanon

حرية عيتاني من حرية بيروت.. والبلد

 

المئة يوم من الظلم المتواصل ومن العمل الخبيث للتحطيم المعنوي التي قاساها المواطن والفنان المسرحي زياد عيتاني، هي فصل لا يمكن طيّه والإعراض عنه والقفز فوقه كيفما كان في تاريخ هذا البلد. هذه لحظة في منتهى الخطورة، وتمثّل تحدّياً يعنينا كمواطنين قبل اي شيء آخر.

 

هي مئة يوم من التدهور الخطير ومن العبث بعيشنا وقيمنا كلبنانيين، يظهر فيها ان الاعتداء بالافتراء والدسّ على مواطن واحد هو فعلاً اعتداء على جميع المواطنين، مثلما يظهر حجم التصدّع ليس فقط في المؤسسات والمفترض فيها حماية ابناء هذا الشعب، بل ايضاً التصدع في مناعة مجتمعنا عندما تكون هناك “فبركات” مسوقة بشكل منهجي وشيطاني، هذا على الرغم من كل الدروس والخبرات في هذا الاطار، التي كان من بالامكان جنيها من مرحلة منصرمة في تاريخ هذا البلد، ولو وجب الاعتراف بأن “مخيلة الايذاء” ضاهت هذه المرة ما كان يلفق يمنة ويسرة في سنيّ الوصاية، خاصة ان ما كان يلفّق لقوى وشخصيات سياسية يومها، استهدف هذه المرة مواطناً طيّباً، اتهم بمهام ليست على الاطلاق من ضمن مستطاعه، بل بمهام عبثية.. مخيلة الايذاء المستجمعة من رواسب افلام شبيهة بأفلام نادية الجندية، مخيلة قامت بظلم شديد لمواطن، لعائلة، لمدينة، لبلد. مخيلة عوّلت على اخضاع مخيلة فنان مسرحي لمرادها، وإنطاقه الحكاية التي تميت فيه الروح، وتمعن في نهش روح البلد.

 

في نفس الوقت، للتشاؤم حدود هنا. في نهاية الامر لم ينطلِ هذا السحر الاسود وظهر عليه الارتياب بعد ساعات قليلة على النبأ الأول، وشيئاً فشيئاً بدأت الامور تسلك مسار تهافت التهمة، ثم التصويب، التصويب بالهمس فالكلام فالمدونة الالكترونية التي وضعت يدها على ممسك الخيط، والتصويب في الاطار المؤسساتي، وبمعية القضاء، لكن ايضاً مجموعة من الناس عاندت منذ البداية الرواية التي راجت في الساعات الاولى، واتسع عنادها عندما صارت الروايات تتهافت الواحدة بعد الاخرى في الايام اللاحقة. وكان الاسهام المفصلي لشعبة المعلومات، ولدور حاسم للرئيس سعد الحريري الذي زاره الفنان عيتاني فور اطلاق سراحه.

 

القضية ينبغي ان تُتابَع، والقرار الظني بحق الموقوفين على ذمة التحقيق الآن لم يصدر بعد، وبقدر ما انها صارت قضية رأي عام بامتياز، بقدر ما انها اختبار يومي لقدرة العمل الممأسس في البلد على حماية نفسه ومتابعة مساره، بازاء الضغوط سواء اتت من دوائر نفوذ او من انفعالات عاطفية، او من خلطة هذه وتلك .. متابعة الملف حتى خواتيمه، وعدم القبول بأي ذرّ للرماد في العيون من اي صنف، ومحاسبة المسؤولين عن هذا التردي الحاصل، وغير المسبوق بهذا الشكل، على مواطن اعزل وفنان مسرحي.

 

رغم هذا العدوان السافر على اسس حياتنا كلبنانيين، واكتشافنا بملف بهذه الجسامة لراهنية اعادة تحكيم حقوق الانسان في لبنان، وضرورة اعمال اصلاح جدي للنسق المولج حماية الناس من الجاسوسية واعمال التخريب وكذلك اعمال الافتراء والدس، وضرورة اعادة ترتيب العلاقة بين الامن والامن، وبين الامن والقضاء، وبين الامن والسياسة، وبين السياسة والثقافة، فان لبنان هو بلد مفطور على الحرية رغم كل شيء، والقضاء فيه، على حاجته لورشة اصلاحية شاملة حقيقية، فهو اطار مؤسساتي اساسي ما زال يحمي الناس، ويصون ما بقي من العقد الاجتماعي. فهذه القضية، تحيل بالضرورة الى اهمية استصلاح العقد الاجتماعي، لان مجتمعا لم يستطع حماية مواطن منه تعرض لظلم، لكنه لم يستطع تمرير الظلم ايضاً، طالما ان “قابلية تكرار” ما حصل لزياد مع مواطنين آخرين هي التي عادت ولعبت دوراً ضميرياً “مستتراً” ثم “هامساً” ثم “مبادراً”، الى جانب العمل الاحترافي لشعبة المعلومات، ونزاهة ومنهجية القاضي رياض ابو غيدا، رغم كل ما تعرّض له الاخير من هجوم، تمّ بعضه على التلفزيونات وبشكل نافر.

 

زياد عيتاني الى الحرية. الملف الى المتابعة القضائية. الرأي العام مُطالَب بالوقوف على البينات ووزن الامور وعدم الاستسلام لنوبات العواطف. مع هذا، العواطف الصادقة لمدينة بيروت، للطريق الجديدة، استقبالاً لابنها الخارج من غياهب السجن الظالم، هي عواطف مدينة شعرت بأن حرية زياد من حريتها، وان اي مسار تصحيحي لاي امر لا بد ان يتخذ شكل الحركة المزدوجة، ضغط الناس على المؤسسات لإحقاق الحق ومعرفة الحقائق والمكاشفة والمحاسبة، وامتلاك المؤسسات لمناعة داخلية لجعلها تصوّب ما يعترضها من اهمال او من افتراء.

 

انها قبل اي شيء آخر، معركة الحرية والقانون. معركة حماية المؤسسات واصلاحها. معركة حماية المواطنين بعد ان كان العدوان هذه المرة على واحد منهم، والرغبة في الوصول بالتحقيقات ثم المحاكمة الى خواتيمها، والاستفادة من هذه الحقيقة القضائية العتيدة كي لا تعاد، كي لا يعاد هكذا ظلم وعشوائية واعتباطية ارادت الايذاء عن غير وجه حق، وبشكل ما كان لعاقل الا ان يدري انه في آخر الامر، غير ممكن في لبنان، حيث المجتمع المفتوح اعلامياً يمكنه ان يفقد نباهة الاحتراز من تصديق تهمة بحق فنان في البداية، لكنه لن يلبث ان يعود فيرتاب لرواية ملفقة غير متوازنة، ثم تنطلق منه المبادرات لكشف الزيف، بحيث انقلاب السحر الاسود على الساحر.