IMLebanon

ساحة الحريّة… «لا تتركوني أنتظر طويلاً»

 

حزينة، كئيبة، يتيمة، مرّت الذكرى. رغم ذلك، تبقى محطة مضيئة في تاريخ لبنان الحديث. تبقى روح 14 آذار نبض كل مشروع لقيام الدولة، ولبنان الجديد.

لم تكن 14 آذار مجرد حركة ثورية، بل حملت أفكاراً ثوروية عابرة للطوائف والأحزاب والمذاهب. كانت هوية ثقافية ومجتمعية وسياسية ووطنية لا تتنصّل عن المفهوم التقليدي الذي كَوّن لبنان، إنّما بحلّة جديدة وممارسة تتخطى خطوط التماس بين المكوّنات اللبنانية، وتُحلّ اللبنانيين من التزامات سَجَنتهم في قفص التبعية على مدى 30 عاماً.

 

ثورة الأرز و14 آذار مفهومان متلازمان، في السياسة، في السيادة، في الوطنية، في مشروع العبور إلى الدولة، وإلى لبنان الجديد. من يمتهنون حساب التوازنات وموازين القوى لم يحسبوا، في ذلك الوقت، أنّ شعباً عاش 30 عاماً محبطاً، مقهوراً، مصادراً قراره ومصيره، سينفض عنه غبار الذلّ والخضوع ليثور في وجه الوصاية السورية.

 

غيّر إيمان اللبنانيين كل المعادلات والتوزانات في الـ2005. بدّل في المشهد القاتم. ثوار نقلوا الجبل من مكان إلى آخر. شعبٌ عنيد وقف بوجه آلة القتل، وبوجه السلاح غير الشرعي. أسقط كل شرعية عمّن حاول أن يأخذ الشرعية له ولسلاحه بالدم والاغتيال والترهيب.

 

كم هو شبيه مشهد اليوم بالأمس. في 17 تشرين الأول 2019، كما في 14 آذار 2005. لبنانيون أسقطوا جدار الطائفية، توحّدوا في صفوف رسمت العلم اللبناني راية فوق دموع خرساء وغصّة على وطن منهوب، ومغتصب. إفترشوا الطرقات والشوارع أياماً وأياماً من دون كلل. معتصمون ومعتصمات، شيوخ وشباب، معوّقون، مرضى، أطباء، مهندسون ومحامون، تنبض مشاعر الثورة في صدورهم، هتفوا، وبُحّت أصواتهم من كثرة ما هتفوا للحرية والسيادة والاستقلال. حريّة تبدأ بحق كل لبناني الحصول على أدنى مقوّمات العيش بطمأنينة، وسيادة لشرعية واحدة هي شرعية الدولة والجيش، واستقلال عن كل مشاريع مشبوهة ولا تشبه صورة لبنان الكيان.

 

مخطئ من يعتقد أنه يمكن فصل العناوين المعيشية والاجتماعية عن السياسية. ومخطئ أكثر من يراهن على تغيير يأتي من «زمرة»، نعم، من «زمرة» – لأنّ هؤلاء ليسوا «رجال دولة»، هم «زمرة» ملوّنة بأبشع ألوان الطائفية وأسوأ أنواع الحزبية والفئوية – نَكّلت ونهبت… ولا تزال.

 

في الـ2005، انتفض الشارع، سبق زعماءه وقيادييه. كسر قيود السجن الكبير، وأطلق عنان الحريّة في سماء لبنان. هي الحرية التي لا يمكن أن نعيش من دونها كما قال بطريرك الاستقلال مار نصرالله بطرس صفير. هي الحريّة «أخت» السيادة والاستقلال. هي الثلاثية المقدسة الحقيقية التي نعتنقها، لا ثلاثيات بائدة، ستُدفن في مزابل التاريخ.

 

هذا باختصار ما حملته حركة 14 آذار. ورغم هذه الصورة الناصعة في تاريخ لبنان، ووقوفهم سنداً داعماً لقادتهم، ومسامحتهم في محطات كثيرة أخطأوا فيها، حصد اللبنانيون خيبات لا تُحصى. وُعدوا بالكثير، باستكمال المواجهة مهما كان الثمن، فسقط قادة الثورة في امتحان الاختلافات والتناقضات. وُعدوا بالبقاء يداً واحدة وقلباً واحداً لا يفرّقهم إلا الموت، ففرّقتهم التسويات والمساومات والخلافات والزعامات.

 

إختلافات في الرأي تحوّلت الى خلافات. مشاكل داخلية أنهكت حركة 14 آذار، وأسقطتها كـ»حركة» أمام 8 آذار و«حزب الله».

 

اليوم، يتعطّش اللبنانيون إلى التغيير. تغيير حقيقي يملؤه الصدق في التحالفات. الشفافية في الممارسة. المصلحة الوطنية في السياسة، وقرارات لخدمة الإنسان في لبنان.

 

يريدون لبنانهم على صورتهم ومثالهم. لبنان «المساحة الروحية»، لا لبنان «المناهج الشمولية». يريدون لبنان الدولة الحرة لا الدولة الأمنية والبوليسية. لبنان القانون والعدل لا لبنان القمع والظلم. لبنان الرأي الحرّ، لا لبنان الملاحقات والاستدعاءات. لبنان الراعي مواطنيه لا لبنان القهر والاهمال. رغم كل الثقة التي منحوها لهذا الفريق أو ذاك ممّن هم في السلطة، لم يعد اللبنانيون يثقون بالدولة وبحكامها. هؤلاء لا تنطبق عليهم مفردات رجال الدولة أصلاً. مفهومهم للسلطة يناقض مفهوم الناس. مفهومهم للديموقراطية لا يتلاءم مع مفهوم الناس. مفهومهم للوطنية لا ينطبق وقاموس الناس. فإذا عبّروا عن هذه المفاهيم، تصبح هرطقة وتفقد معانيها.

 

المسافة كبيرة بين أهل السلطة والناس. ولذلك، نزلوا في 17 تشرين الأول. تملأهم الثقة بالتغيير. يقولون «قرفنا» من لبنانهم، الذي تكوّن على مفاهيم الموت والقتل والتجارة بالأرواح والتضحية بالمقدسات، وعلى مبنيّات عقائدية لا تشبه بلدنا ومجتمعنا. قالوا يريدون لبنان الحياة والكرامة والأمن والحريّة. فالأمن والحرية متلازمان، وسقوط أحدهما يعني سقوط الآخر وسقوط الإنسان في لبنان.

 

المحرّمات سقطت، والممنوعات تكسّرت بفعل سواعد شباب أبطال، أقفلوا كل طرقات لبنان من الشفرولية الى جل الديب والزوق وغزير والبوار، الى جبيل والبترون، إلى طرابلس وزغرتا وعكار، إلى كفررمان والنبطية، إلى الرينغ وساحة الشهداء، إلى عاليه والجبل، الى زحلة وتعلبايا وسعدنايل وجديتا، الى بعلبك الصامدة. الهتافات لم تستثن أحداً ممّن سرقوا ونهبوا وحوّلوا حياة اللبنانيين الى مسيرة عزاء يومية اجتماعياً ومالياً واقتصادياً.

 

كبرت الهوة بين الشعب والسلطة…

 

اللبنانيون يريدون مساراً ديموقراطياً طبيعياً في الحكم. موالاة تحكم ومعارضة تعارض. معارضة يهزّ صوتها جدران المجلس النيابي. تحمل مشروع تغيير حقيقي، تنتفض من أجل وطن ليفتح أمام الشباب أبواب المستقبل. يشعرهم بالانتماء والاعتزاز بالهوية. يشعرهم أنهم موجودون ويلبّي طموحاتهم السياسية. يبني لهم نظاماً لا «يهرّ» عند كل اهتزاز سياسي، يبني لهم بنياناً اقتصادياً ومالياً يحمي تعبهم ويضمن مستقبلهم. مفاهيم جديدة تقوم على المساءلة والمحاسبة وعلى تداول السلطة، في الدولة والأحزاب والجمعيات.

 

هو زمن الذئاب اليوم. هو زمن المتملّقين، والمتعجرفين، والمترددين، والمستثمرين بروح شعب، وكيان جمهورية، وهوية وطن. هو زمن السياسيين الذين يبيعون الوطن قبل صياح الديك. هو الزمن الرديء.

 

في هذه اللحظة الاجتماعية الاقتصادية السياسية الرديئة من الوطن، أين أنتم قادة وثوار 14 آذار؟ الكل يسأل عنكم؟ في السفارات، في الصروح السياسية، في الشوارع، في زوايا الأديرة والكنائس والجوامع، في صلاة الناس اليومية، يسألون، أين 14 آذار؟

 

نعم، المطلوب لقاء وطني إسلامي – مسيحي، ولو لم ينتج في هذه الفترة تحالفاً أو جبهة شبيهة بجبهة 14 آذار، إنّما يجمع المساحات المشتركة، التي تؤكد على التمسّك بالدستور، وباتفاق الطائف، وبالشرعيتين العربية والدولية، والعودة عن الخطأ الذي أوصَل لبنان الى الحالة التي يعيشها اليوم بفِعل تسويات غير متكافئة وغير متوازنة. المرحلة الجديدة، تتطلّب، إلى جانب انتفاضة 17 تشرين، التقاء قوى من كل الطوائف، على قاعدة احترام الدستور، لوضع استراتيجية تحقق إعادة تكوين سلطة سياسية قادرة على بناء إدارة عادلة للشأن الداخلي، وإدارة «لبنانية» للشأن الخارجي.

 

نعم، مرّت ذكرى 14 آذار حزينة. الساحة تحت، ساحة الحريّة، تحمل دموعها وتمشي، وتتوسّل كل من يمرّ بقربها، أن يحمل رسالتها، «اشتقتُ إلى أصواتهم، إلى خطى أقدامهم، إلى عصب حناجرهم يصرخ للحرية والسيادة والاستقلال. قولوا لهم: «أنا بالانتظار، فلا تتركوني أنتظر طويلاً».