زياد عيتاني، فجأة، جاسوساً «محترفاً، وخطراً لإسرائيل». لم يصدر هذا الاتّهام من إشاعات أو تكهّنات، بل من مصادر أمنية يفترَض أنّها معزّزة بالصدقية، والنزاهة، ومُسلّحة بإيمان عميق لحماية اللبنانيين. المصدر الأول انطلق من المقدّم (أو المقدّمة) سوزان الحاج، بالتعاون الوثيق، الدقيق الدلالات، والحصيف الوقائع، مع إيلي غبش، ومجهول ثالث. ثلاثة «فرسان» أرادوا أن يمحوا مواطناً لبنانياً من أهليّته، ويحطّموا سمعته، ويرموه في السجن، وسط مشاعر العار، والعمالة والذلّ، لزوجته، وعائلته، ووالدته… وبيروت. إنّه الانتقام الأعمى، الشرّير، ينفجر في كيان فنّان مسرحي، ظريف، مدني، بيروتي حتى العظم، لبناني حتى آخر رمق، عروبي الأرومة، سلميّ الملامح، مدنيّ الفكر والروح.
111 يوماً، وزياد عيتاني، مرميّ في السجن، تلقّى ما تلقّى كلّ «متّهم» خطر على سيادة لبنان، وأمنه، واستقراره، من تعذيب (لم يلقه لا العميل المؤكد فايز كرم، ولا حامل المتفجّرات ميشال سماحة: فهذان استثناءان؛ الأوّل عميل إسرائيلي، والثاني عميل سوري، سجن فندقي من 5 نجوم وأكثر).
ماذا يفعل فنّان مرهف كزياد، لم يتخرّج من مدارس المخابرات (السورية أو الإيرانية)، ولم يحترف لغة العنف ولا السلاح، ولا الصمود أمام عمليات التعذيب، والجلد، والضَّرب، والإهانة، سوى أن يعترف بعمالته؟
«111 يوماً» والتّهمة ثابتة عليه. صدّق كثيرون «جريمته».. و«خيانته»، وابتعدوا عنه، حتى أقرب زملائه وأصدقائه، وأبعد عارفيه. إنّه في الهاوية. ماذا يفعل «بريء» عندما يواجَه بأدلّة، وبقصص بوليسيّة، وتسجيلات، ومكالمات مزيّفة، للانتقام منه. كان ينتظر يائساً الحكم الأخير، إمّا بالإعدام، أم بالسجن مدى الحياة، أو بصيت العار الذي لا يمحوه الزمن، مقدّم في قوى الأمن الداخلي وأتتها سلطة فائضة فصبّتها على زياد، لمجرّد تغريدة، فضّلت انحيازها إلى صف معاداة الدولة؛ وفاضحها العفوي هو زياد. إنها من القصص البوليسية، أو أفلام الثريلر، أو المؤامرات المحبوكة وراء الكواليس المظلمة.
وحده
كأنّه وحده في هذا العالم، شعَرَ بأنّ كل شيء تخلّى عنه، لا اتصالات، لا مكالمات سوى ما ندر صرخَ فيها لزوجته «أنا بريء». كأنّها آخر كائن يؤمن ببراءته. لكن، هل كان على «الناس» أن تصدّق براءته؟ ربما «لا» وربما «نعم»… لكن هناك جهة أمنية (المعلومات)، شكّكت بالرواية. خلل ما في سياق الاستجواب. وتسرّع في الحكم، وفجوات في الأدلّة وكسور في سياق التحقيق. وبحِرفةً عالية (اشتهرت بها)، تمكّنت شعبة المعلومات، من اكتشاف اللعبة القذرة. «مؤامرة» مدبّرة لابن بيروت… وتابعت خيوطها، وشعابها، لتصل إلى من قدّم «الحقائق» الدامغة لأمن الدولة، الذي أخذ بها كلياً.
المرجعيات السياسية
وهنا بالذات، وصلت الأمور إلى مختلف المرجعيات السياسية: الوثائق المكتشفة مزوّرة، وأدلّة الاتهامات المرتّبة مقرصنة: إنّه الحلف الجهنّمي بين السيدة سوزان والمدعو إيلي غبش. معظم المرجعيات اللبنانية، اطّلعت على الوثائق التي تبرّئ زياد. ولعلَّ إصرار رئيس الحكومة سعد الحريري، ومن موقعه الرسمي، والاجتماعي، واتصالاته المكثّفة، وعدم قبوله إغلاق الملف، ساعد على تبيان الحقيقة، خصوصاً أمام القاضي رياض أبو غيدا (نحيّيه من كل قلبنا)، لتصل المسألة إلى خواتيمها السعيدة: إطلاق سراح زياد من دون كفالة مالية، وتوجيه الاتّهام إلى الثنائي «العبقري» سوزان الحاج وايلي غبش بتلفيق التُّهم بالضحيّة السهلة زياد. الإثنان في السجن. وزياد في الحرية. وها هو، بين محبّيه وأهله ووالدته وزوجته وأبنائه، كأنّه يهتف «يا حرّية نحن رجالك»، ويحيّي الرئيس الحريري والوزير نهاد المشنوق.
حزمة الوصايا السورية
قد يظنّ بعضهم أنّ مثل هذه التلفيقات «جديدة» وغير معهودة. لكن لو عدنا إلى الوراء، إلى أيام وصاية آل الأسد على لبنان، وعملائهم في القضاء، وفي المراكز الأمنية، والعسكرية، لعرفنا أنّ عشرات من المعارضين للنظام السوري، لُفّقت لهم تهم العمالة لإسرائيل: نتذكّر أدونيس عكرة (الذي كان يؤيّد الجنرال عون عندما كان يحارب الوجود السوري)، ونتذكّر بألم أيضاً كيف ركّبت المخابرات السورية حكاية عمالة الوزير نهاد المشنوق، ليجد نفسه منفياً عدّة سنوات و«منبوذاً»، حتى من أقرب المقرّبين. وإذا كنا نعرف هذه «اللعبة» الجهنّمية التي أخرجها النظام السوري بحق نهاد المشنوق (حليف الرئيس الشهيد رفيق الحريري)، فإن الكلمة المؤثّرة التي صاغها بعد تبرئة زياد، دليل على ما تفعل بالمواطن الشريف، عندما تطاوله مثل هذه التهم، من مشاعر الذلّ، والعار، والألم.
ومَن لم يتسنَ له أن يطّلع على مثل هذه الاختلاقات، نورد أنّ عشرات الصحافيين، والكتّاب والسياسيين، تعرّضوا لمثل هذه الاتهامات: أَلم يُتّهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري بالعمالة لإسرائيل؟ وكذلك ميشال عون؟ ولم تنج 14 آذار ولا جمهورها المليوني من هذه التهم سواء من «لدُن» نظام الأسد المجرم، أو إيران بحزبها الأثيري.
فالعصر السوري ثمّ الإيراني في لبنان، لم يوفّرا وسيلة لا الترهيب، ولا الاغتيالات، ولا التخوين، ولا القمع، ولم يستخدماها في حق خصومهم اللبنانيين. وهل ننسى كيف اتُّهم بعض القيادات في 14 آذار ومنهم الرئيس سعد الحريري، بأنّه يدعم الإرهاب في سوريا وهو «داعشي»!…
إذن، فقضيّة زياد عيتاني هي استمرار لثقافة ممارسات النظام السوري وإيران في لبنان كحليفَين، واحد وصيّ علينا، والثاني أكبر: محتل… وإذا أردنا، فلنتذكر في هذه المناسبة كيف أخلي سبيل العميل الإسرائيلي فايز كرم بعد عدة أشهر من سجنه، وخرج كبَطل «وطني» نحرت الخراف على طريق عودته، ونُثرت على موكبه الورود والأرز… والهتافات. وهل ننسى كيف حاولت بعض الجهات القضائية – تقصير مدة سجن سماحة، وإطلاق سبيله، ثمّ، وتحت ضغط قيادات المجتمع المدني أُعيدت محاكمته، وأُعيد إلى السجن.
ونظنّ أنّ المقدّم سوزان الحاج ورثت هذه الآفة القاتلة، من إرث الطغاة، والمجرمين، والوصايات. فلننظر من يفتك منذ 7 سنوات بالشعب السوري: حزب إيران والحرس الثوري الإيراني، وبوتين، وهم أعظم طغاة القرن الحادي والعشرين.
إنتصار الدولة
يبدو أنّ سوزان تعمّقت في سياسة التلفيق والكراهية؛ والمحو. فأرادت بلعبة بوليسية، أن تروي تعطّشها لتثأرمن زياد، فاتّبعت مسالك الذين لا يكرهون أكثر من الحقيقة، والديموقراطية، والعدالة، والحرية والسيادة، والنزاهة: بؤرة إجرام خرج منها زياد، نظيفاً، هفهافاً، ثائراً، أكثر إصراراً على خطّه السياسي المعتدل اللبناني العروبي، وأكثر إيماناً بلبنان الدولة العادلة.
فزياد يعرف وتأكد أن مثل قضيّته لو جرت في سوريا، أو إيران أو العراق، أو روسيا، أو أي بلد دكتاتوري، لكان اليوم ما زال في السجن وربما أكثر…
وقد سرّني كثيراً أن أجد زياد فور خروجه من «الأسر» مفعماً بالأمل، وبالرجاء، وبالتفاؤل وبإرادة المضيّ في مساره الوطني، والديموقراطي، ليناضل بدوره، على المسرح، أو في رحاب المجتمع، ضد المجرمين، والاستبداديين، والسلطويين، لحماية مَن سيقع ضحيّتهم من أبرياء ووطنيّين ومدنيين…
فالنضال السلمي، الديموقراطي، الثقافي والفني والفكري، هو الوسيلة الناجعة التي لا بدّ من اتّباعها، في مواجهة الاستبداد، والطغيان، والمذهبية، والتطرّف، والفساد. وعلينا ألا ننسى أن 14 آذار هي التي حرّرت الشارع ليكون ميداناً للتعبير الديموقراطي، وهو الشارع الذي كان محرّماً على اللبنانيين في احتجاجاتهم، وغضبهم. وحسناً فعل زياد، في كلماته المؤثّرة والرائعة، في تجنّبه لغة الحقد والكراهية، والانتقام والثأر، (وهي لغة جماعة 8 آذار) ومن وراءَهم والأحزاب الموتورة التي لا يتكلم ممثّلوها إلاّ بلغة الصبابيط ورفع الأصابع تهديداً في تعاملهم مع خصومهم السياسيين. غضبه كان إيجابياً. غضب الكلمة الطالعة من القهر، غضب أبيض متفجر من براءته. وهذا ما لمسناه عند الجموع التي استقبلته بالورود والدموع والفرح، وكانت جموعاً مدنية، مؤمنة بالدولة العادلة، وبالاعتدال، والتحاور. لا عنف، لا دعوة إلى الانتقام… بل دعوة إلى قيام دولة منصفة للجميع، تحمي الجميع من أمثال سوزان الحاج وإيلي غبش. أي تحمي في النهاية نفسها.
ونظنّ أنّ الأمثولة، التي نستخلصها من هذه القضية، بكواليسها، وتعقيداتها، أنّ زياد، لم ينتصر وحده عبر تبرئته، بل الدولة أيضاً، والأجهزة الأمنية، والمعلومات، وهذا يعني وكما قال عديدون، أنّ العدالة ما زالت ممكنة في لبنان. وأن الدولة برغم المؤامرات التي تُحاك لها، ما زال قيامها ممكناً، على صعيد حماية الحدود، والديموقراطية، ولبنان، والسيادة…
فانتصار زياد في معركة الحرية مزدوج: انتصاره، وانتصار القضاء (ننوّه مجدّداً بشجاعة رياض أبو غيدا)، وتالياً الجمهورية كلّها!
فمبروك لك يا زياد!
إنّها البداية، لا النهاية. بداية معركة طويلة من أجل القيم والمُثل والمبادئ النضالية، ضوء جديد في قلبك، فاتبعه، اتبعه، بلا تردّد، ولا خوف،…
إنّه ضوء الحرّية!
جوهر بلدنا!
وجوهر تاريخه، وتعدّديته، ومدنيّته وحضاريّته.
أنت عبرْتَ من السجن مظلوماً إلى الحرّية منصوراً، فانتصرت بك الدولة…
وكذلك الناس!
بول شاوول