طالما أنّ واشنطن وباريس تعلمان علم اليقين أنّ جهودهما من أجل وقف الحرب في الجنوب وتهدئة الجبهة بين الجنوب وشمال إسرائيل، من الأمور المتعذرة قبل وقف النار في غزة، فلماذا تواصلان تحركهما باتجاه بيروت وتل أبيب؟
فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة ليس وارداً نتيجة موقف «حزب الله»، والذي هو موقف إيران، بربط أي تهدئة جنوباً بوقف إسرائيل حربها على «حماس» والقطاع. فطهران لم تعطِ الضوء الأخضر لـ»الحزب» بفتح جبهة الجنوب، مع الضوابط التي تدار من خلالها هذه الجبهة، إلا لأنها تأمل باستثمار هذا الأمر سياسياً، عندما يحين وقت إيقاف الحرب على غزة، مع الإدارة الأميركية. وهذا ما يفسر تشدد «الحزب» في رفض البحث في ما يقترحه الجانبان الأميركي والفرنسي من آلية لوقف حرب الجنوب، قبل وقفها على غزة. قالها الأمين العام لـ»الحزب» السيد حسن نصر الله أكثر من مرة ورددها قادته منذ أشهر، وتقصد تكرارها نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم عشية وصول وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه إلى بيروت في شكل لا لبس فيه. فهو قال: «مهما كثرت المبادرات تجاه لبنان، فلا حياة َلها قبل َوقف ِالعدوان على قطاع ِغزة».
ما يفسر مواصلة باريس وواشنطن حراكهما مع لبنان على الرغم من الجواب القاطع لـ»الحزب»، يمكن تلخيصه بالآتي:
– المخاوف من انفلات الوضع على الجبهة الجنوبية رغم الضوابط الإيرانية المعروفة التي تبلغت بهما العواصم الغربية كافة، من طهران، ولا سيما الجانب الأميركي. فالأسابيع الماضية شهدت رفعاً لسقف المواجهات بين الجيش الإسرائيلي وبين المقاومة بما ينذر بخطورة تدحرج الأمور نحو المحظور.
– الخشية من أن تعاكس طهران أو تل أبيب جهود الهدنة التي يجري العمل الحثيث لأجل إرسائها في غزة إذا كان لأي منهما تحفظات عليها لأنها لا تراعي مصالح أي منهما. أي أن تلجأ إحداهما إلى الاعتراض على صيغة الهدنة في غزة عبر جبهة الجنوب. في إسرائيل إذا وجد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أنّ التنازلات التي سيقدمها بناء لضغط أميركي تضعف موقفه الداخلي بمواجهة خصومه الكثر، داخل الائتلاف الحكومي وخارجه فيلجأ إلى نسفها، خصوصاً أنّ أكثر من مسؤول إسرائيلي، فضلاً عن أهالي المحتجزين الإسرائيليين اتهموه بقوة بعرقلة مفاوضات الهدنة التي يلحون على إنجازها. فخصوم نتنياهو تعاطوا بشيء من الليونة معه طالما الحرب ضد «حماس» مستمرة وتوجب الاصطفاف خلف القيادتين السياسية والعسكرية. أما الخوف من أن تلجأ إيران إلى نسف الهدنة، وهو الاحتمال الأقل، فيعود إلى أنها قد تُخرِّبها إذا رسم الاتفاق عليها معالم «اليوم التالي» من دون الأخذ برأي ودور إيران الإقليمي، فيكون استثمارها في «حماس» وفي «حزب الله»، ومن ثم بدخول الحوثيين وبعض ميليشيات الحشد الشعبي في العراق، هباءً. فالاتصالات والمداولات حول اليوم التالي يجري البحث فيها بين الولايات المتحدة والدول العربية وليس مع إيران. بل على العكس هناك توجه غربي لاعتماد سياسة إضعاف وكلاء طهران طالما هناك قرار بتجنب المواجهة المباشرة معها خشية توسع دائرة الحرب وتفادياً لتورط أميركا… ولذلك أشرفت الإدارة الأميركية على ترتيب حدود رد الإيراني على قصف قنصليتها في دمشق، وكذلك دوزنة رد إسرائيل على الرد بقصفها أصفهان
– ان مسودة التوافق على وقف الحرب في الجنوب، شبه جاهزة تحت عنوان تنفيذ القرار الدولي الرقم 1701 «بالتدرج»، وجرى التوصل إليها خلال زيارة الوسيط الأميركي الموفد الرئاسي آموس هوكشتاين، في 5 آذار الماضي ولقائه رئيس البرلمان نبيه بري ، وبعلم وموافقة «حزب الله». فالمسودة أنهت التفاهم على معالجة النقاط المختلف عليها في شأن الحدود البرية بما فيها نقطة B1 في الناقورة، من دون مسألة انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا المحتلة التي تركت لمرحلة لاحقة نظراً إلى الحاجة إلى ترتيبات تتعدى الجانبين الإسرائيلي واللبناني إلى الجانب السوري والأمم المتحدة. وتُركت معالجة قضية الخروقات الجوية والبحرية الإسرائيلية وانسحاب قوات «حزب الله» من جنوب الليطاني ومسألة وقف الخروقات الإسرائيلية الجوية والبحرية إلى مرحلة لاحقة… لكن تثبيت هذه المسودة بقي معلقاً إلى حين التوصل إلى اتفاق الهدنة في غزة.
هذه العوامل الثلاثة لا تبرر التحركين الفرنسي والأميركي فحسب، بل أن ما أعطى زخماً لهما هو تنشيط الجهود الأميركية المصرية من أجل التوصل إلى اتفاق الهدنة في غزة، بحيث يمكن البدء فوراً في مباشرة تنفيذ الاتفاق شبه المنجز حول الجنوب فور إقرار هذه الهدنة.
«الحزب» وفق معطيات أكثر من مصدر بارز، يتطلع إلى الساعة التي يتوقف فيها النزف القائم في الجنوب والذي اضطر لتحمل تبعاته لأسباب إيرانية… فهو يأمل في تنفيذ القرار وفق التوقيت الإيراني، وليس تحت ضغوط خصومه.
وإذا تعثرت هدنة غزة قد يكون المخرج «خفض التصعيد» وحصر المواجهات في المناطق التي تعتبرها المقاومة الإسلامية محتلة، من مزارع شبعا والقرى الجنوبية.