لا يمثل انقلاب النيجر حرباً عاديةً بالنسبة لباريس، إذ كان الرئيس محمد بازوم الذي أطاح به العسكريون حليفاً قوياً لها في الحرب ضد المتشددين وشريكاً اقتصادياً قوياً، ويعتبر بالمناسبة من بين آخر القادة الموالين لها في منطقة الساحل الإفريقي. تعدّ النيجر دولة غنية بموارد الطاقة، إذ تمتلك واحداً من أكبر احتياطيات العالم من اليورانيوم وتعدّ سابع أكبر منتج له، فضلاً عن امتلاكها كميات كبرى من احتياطيات الذهب والنفط، كما تم الكشف عن احتياطيات من الفحم عالي الجودة في جنوب وغربي البلاد ومع انتهاء الحقبة الاستعمارية، لم تنته المصالح الفرنسية في هذا البلد الذي نال استقلاله عام 1960، لكن المصالح الفرنسية لم تبارح مكانها من كيانه ولم يندثر الطمع بثرواته، إذ انّ الإليزيه يعتمد على النيجر في الحصول على 35 بالمائة من احتياجاتها من اليورانيوم لمساعدة محطاتها النووية في توليد 70 في المائة في الكهرباء. ويقول مناصرو المجلس العسكري الحاكم هناك، انّ فرنسا فشلت في حمايتهم من الجهاديين في حين انّ روسيا ستكون حليفاً أقوى، في الوقت الذي تسعى فيه موسكو الى تعزيز علاقاتها التجارية والاقتصادية مع دول غرب افريقيا. ويبلغ تعداد سكان النيجر 24,4 مليون نسبة ويعيش اثنان من كل خمس أشخاص تحت خط الفقر المدقع بأقل من دولارين في اليوم. من هنا فلتسأل فرنسا نفسها، هل ما زالت باريس تعتقد بأنّ استعمارها وافرازات استعمارها وتوقها الدائم الى الاستعمار قمرٌ لا يمكن أن يخفى؟ على ما يبدو فإنّ منشدي المارسييز ما زالوا يؤمنون بذلك. رغم مرور عقود وقرون من الزمن، إلاّ انّ ذاكرة التاريخ لا تزال شاهدة على ممارسات فرنسا الاستعمارية. خلال تلك الحقبة السوداء من تاريخ البشرية، نهبت فرنسا ثروات شعوب وبلدان وارتكبت المجازر بحقها فضلاً عن ارتباطها بتجارة العبيد. وبعد انطلاق عجلتها الاستعمارية عام 1524، أسست فرنسا حكمها الاستعماري في 20 دولة بين شمالي وغربي قارة افريقيا، ورزحت نسبة 35 بالمائة من مناطق القارة السمراء تحت نير السيطرة الفرنسية الاستعمارية. استخدمت فرنسا دولاً أفريقية كالسنغال وساحل العاج وبنين كمراكز لتجارة العبيد اضافةً الى استغلال ونهب موارد الدول. واستمرت الفترة الاستعمارية الفرنسية في البلدان الأفريقية المحتلة حوالي خمسة قرون. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1939 -1945، اندلعت احتجاجات شعبية في المستعمرات الفرنسية رفضاً للإحتلال والاستعمار وطلبا للاستقلال، فتمثل الرد الفرنسي في البلدان الأفريقية على تطلعات الشعوب الى رحاب الحرية باستخدام القوة العسكرية، فقتلت النيران الفرنسية أكثر من مليوني مواطن أفريقي. وأبرز مثال تجلى بقتل الجيش الفرنسي آلاف الجزائريين الذين تظاهروا ضد باريس التي كانت قد وعدتهم بالاستقلال قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية شريطة محاربتهم في صفوف جيشها. وواصلت فرنسا استخدام العنف الحاد والقوة الدموية المفرطة بشكل ممنهج في الجزائر حتى ظفر البلد العربي الجبار باستقلاله عام 1962 عقب استعمار واحتلال دموي لبلاد المناضلة جميلة بو حيرد دام حوالي 133 عاماً، وقد أسفر ذلك عن سقوط مليون و300 الف شهيد جزائري قضوا نحنهم ضحية للتعذيب الفرنسي. كما ارتكبت فرنسا انتهاكات كبيرة في مجال حقوق الانسان في الدول التي كانت تستحوذ فيها على نفوذ سياسي، وأبرز مثال هي الابادة الجماعية بحق أثنية التوتس في راوندا عام 1994 وهي من أكبر عمليات الابادة في التاريخ، إذ سقط فيها قرابة 800 الف شهيد. وتبيّن فيما بعد أنّ باريس لعبت دوراً كبيراً في حدوث تلك الابادة، إذ انّ الجنود الفرنسيون كانوا قد غادروا منطقة الجريمة قبيل وقوعها رغم تلقيهم معلومات بما سيحدث فضلاً عن تقارير دولية أفادت بأنّ جنوداً فرنسيين شاركوا فعلياً في مؤازرة مرتكبي المجازر في رواندا. وبدلاً من السعي الى الحيلولة دون وقوع مجازر جماعية في هذا البلد قدّمت فرنسا السلاح والدعم اللوجستي لحكومة الهوتو، ما أدّى الى رفع دعاوى قضائية بحق باريس حتى الآن. وهنا لا بد من التذكير بالتجارب النووية الفرنسية في مدينة رقان الجزائرية الآهلة بالسكان، وكان أول تفجير نووي فرنسي في المنطقة بتاريخ 13 شباط 1960، عندما أطلقت فرنسا أولى قنابلها هناك والتي حملت عنوان اليربوع الأزرق، وهي قنبلة ملوثة للغاية ضاهت قوتها 4 أضعاف قنبلة هيروشيما. أما عن مجزرة كبكب تشاد، فحصلت عندما دعا القادة العسكريون الفرنسيون في 15 تشرين الثاني 1917 ما يقارب 400 عالم وزعيم محلي من كافة ربوع تشاد لمناقشة حلول وسطية تتعلّق بإدارة شؤون البلاد، ودون سابق إنذار ، تعرّض المجتمعون إلى هجوم مجموعة من المسلّحين بالأسلحة النارية والسواطير فأردوا كل المدعوين، ووضعوا جثثهم في حفرة كبرى بمنطقة أم كامل وعلى أثر تلك المجزرة استولى الفرنسيون على تشاد. وفي الخامس من آب عام 1907، قصفت البوارج الحربية الفرنسية مدينة الدار البيضاء ، مما أدى إلى استشهاد نحو 6 آلاف مواطن مغربي من أصل 30 ألف نسمة، ما عدا الحي الأوروبي الذي بقي آمناً لأنه كان مرتعاً للسفارات والقنصليات الأوروبية بالمغرب. وفي ليلة 29-30 كانون الثاني 1952 أشتعلت شرارة المقاومة الوطنية التونسية المسلحة ، حيث ارتكب جيش الإحتلال الفرنسي مجزرة تازركة الواقعة في ولاية نابل التونسية بقيادة جون دوهوت كلوك عبر إخراج رجال القرية من ديارهم وتجميعهم في بطحاء تحت الحراسة المشددة، ثم اقتحم الجنود الفرنسيون البيوت واغتصبوا النساء التونسيات، ثم دهسوا الرضع بسياراتهم العسكرية والمصفحات الفرنسية. ورغم استقلال تونس سنة 1956 فإن المجازر الفرنسية لم تتوقف إذ أنه في شباط 1958، ارتكبت فرنسا مجزرة ساقية سيدي يوسف، حيث كانت الحدود التونسية الجزائرية التي أرهقت الفرنسيين ، فقصفت المدفعية الفرنسية منطقة سيدي يوسف واسفر الهجوم عن استشهاد نحو 68 بينهم 12 طفلاً و9 نساء إلى جانب 87 جريجاً من التونسيين والجزائريين، ومع حلول ليلة 29 آذار سنة 1947، اندلعت انتفاضة شعبية في جزيرة مدغشقر، وأتى التعامل الفرنسي مع تلك الإنتفاضة دموياً بشكل خيالي، إذ أعدم الفرنسيون مئات السكان ووقع عشرات الآلاف منهم في مصيدة التعذيب الجسدي والنفسي، وأضرمت النار في القرى واستهدف الفرنسيون المتظاهرين بالسلاح الحي، كما اغتالت القوات الفرنسية قيادات الإنتفاضة والقي عدد من جيشهم من الطائرات بهدف إرهاب وتخويف المطالبين بالإستقلال وتحطيمهم معنوياً، وهذا غيض من فيض عن مئات لا بل آلاف مجازر القتل التي وقعت في دول إفريقيا على يد الإستعمار الفرنسي. وفي مقدمته لكتاب فرانز فانون لعام 1961 « معذبو الأرض « قال سارتر أن فرنسا التي تخلصت من النازية يجب أن تخلص نفسها من فرنسا التي عذبت الجزائر، ففرنسا الحرب العالمية الثانية يجب أن تفصل نفسها عن فرنسا الدولة الإستعمارية. تعتبر أفريقيا المزوّد الرئيسي بالطاقة واليورانيوم والمعادن ، إذ تضخّ دول النيجر ومالي وتشاد نسبة 5 بالمائة من احتياجات المفاعلات النووية التي تعتمدها فرنسا للتزود بالكهرباء، وإضافةً ليورانيوم النيجر، تسيطر فرنسا على مناجم الذهب في مالي، وحقول النفط في السنغال بواسطة الشركات الفرنسية العملاقة. والجدير ذكره بأنّ 80 بمالئة من كل ما يتم استخراجه من الموارد والثروات المعدنية في إفريقيا ، يصدر بإشراف فرنسي نحو القارات الأخرى. كما أن تعدين الذهب بنسبة تجتاز 80 بالمائة في العالم تتم في دول القارة الإفريقية، ويتم استخراج 70 بالمائة من الماس من تلك القارة وفرنسا هي من المستفيدين الأوائل. ومنذ سنة 1961 تحتفظ فرنسا بالإحتياجات الوطنية لــــ 14 دولة إفريقية وهي البنين ، بوركينافاسو وغينيا ويساو وساحل العاج ومالي والنيجر والسنغال والتوغو وغينيا الإستوائية، والغابون وبذلك تحقق الخزانة الفرنسية ما يعادل 500 مليار دولار من الأرباح والعوائد السنوية من إفريقيا. ولتبرير نهب فرنسا لثروات إفريقيا ، سبق للرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي أن قال عام 2007 في خطاب علني له أن مأساة إفريقيا هي أن الرجل الإفريقي لم يدخل التاريخ بما فيه الكفاية! فيما قال الرئيس الأسبق أيضاً فرنسوا ميتران عام 1967 قائلاً أن فرنسا لن تستطيع أن تملك تاريخاً من دون إفريقيا ! وكما سلفت فإن مواطنين في النيجر من أصل خمسة يعيشان تحت وطأة خط الفقر المدقع والعوز الشديد إذ يتقاضى المواطن الفقير 1 دولار يومياً. إنما الذي لا يجب أن يغيب عن بال فرنسا ما قاله الفيلسوف العظيم كارل ماركس أن الفقير لا يستطيع أن يصنع ثورة، بل أن وعي الفقير وهو من يصنع الثورة. من هنا فإنّ الوعي والثقافة والجرأة يجب أن يكونوا أيقونة الانتصار. وفي فرنسا اليوم مواطن عربي لبناني يساري وعلماني يقبع في سجن باريسي دامس منذ العام 1984، رغم أنّ محكوميته انتهت منذ عشرات السنوات، لكن من يمدد اقامته في السجن كل مرة هو ذلك اللوبي الصهيوني الذي يتحكم بمفاصل السياسة الفرنسية منذ ثورتها الشهيرة . ويذكر أن جورج إبن بلدة القبيات العكارية سُجن لأنه اتهم باغتيال سكرتير السفير الاسرائيلي في باريس ولانه كان يناضل من أجل استعادة فلسطين كاملة وفق سلاح اللاءات الثلاث للزعيم العربي جمال عبد الناصر.