استنفرت أوروبا، بل الغرب كله، لدعم فرنسا مادياً ومعنوياً في مواجهة الإرهاب، وتعاطفت الدول العربية، وبعضها يعاني الإرهاب أيضاً، مع الدولة الفرنسية وبعثت بممثلين عنها للمشاركة في المسيرة الصامتة احتجاجاً وإدانة للإرهاب. وهذا سلوك جيد وتصرف عاقل وواجب محمود، لكن على الجانب الآخر من المتوسط هناك دول عربية تصارع إرهاب جماعات، وليس مجرد أفراد انطلقوا من حي صغير، وتواجه مؤامرات تشارك فيها دول وحكومات وأجهزة استخبارات وهي تحت منظار يحقق في كل تصرف لها ويرصد كل إجراء تقدم عليه.
قضية الإرهاب لا يتم التعامل معها دولياً بمعيار واحد وتلك هي المشكلة، فدول وحكومات وأجهزة استخبارات تدعم إرهابيين وتستخدمهم لإطاحة أنظمة أو التأثير فيها من دون اعتبار للحقيقة الدامغة التي تتأكد كل مرة بأن الإرهاب لا حدود له ولا حتى تحالفات، وأن الجماعة أو التنظيم أو الإرهابي المتحالف مع دولة ما اليوم سيكون ضدها غداً.
وبداية فإن أي تعاطف مع الإرهاب مرفوض بل مدان، كما أن اختلاق مبررات لمنفذي العمليات الإرهابية، أو منحهم الحق في قتل الناس كرد فعل على أي تصرف ولو مُجرم، يصب في النهاية في مصلحة الإرهاب والإرهابيين ولا يحل المعضلة أو يضع حداً للظاهرة، وإنما يزيد منها ويرفع من معدلات الجرائم ووتيرة العنف.
على جانب آخر، فإن تحليل العمليات الإرهابية في فرنسا ولبنان أخيراً والربط بينها وبين ما يحدث أي في العالم العربي عموماً ومصر خصوصاً للوقوف على الأسباب والظروف والأخطاء التي وقع فيها بعض الأطراف وأفضت في النهاية إلى ما نحن فيه الآن، لا يعني أبداً التشفي في الدولة الفرنسية وأوروبا خصوصاً والغرب عموماً.
والمؤكد أن أحداثاً عدة أثبتت أن التفسيرات الأوروبية لمسألة التطرف والتي جعلت دولاً عدة في أوروبا بينها فرنسا تتعامل مع جماعات ومنظمات راديكالية باعتبارها جماعات سياسية كان خطأ فادحاً، حتى لو كانت هذه الجماعات لم تستهدف الغرب بسلوك إرهابي مباشر على الأرض، إذ إن القراءة المتأنية والتحليل الدقيق يكشفان أن الأسس التي قامت عليها هذه الجماعات وما تلقنه لأعضائها وعناصرها من أفكار ومبادئ ينتقل في مراحل معينة من مجرد الأفكار الكامنة إلى التحريض المباشر، ومن السلوك الخفي إلى الفعل الواقعي الظاهر على الأرض.
وكما حال الدول العربية بما فيها من فقر وعشوائية وظروف مجتمعية سيئة وأوضاع حياتية متدنية، فإن مناطق وأحياء كثيرة في دول أوروبية تعاني الأجواء نفسها والمشاهد ذاتها، وكل من تردد على أوروبا يدرك أن هناك مناطق عشوائية لا تختلف المشاهد داخلها عن تلك الموجودة في وسط عشوائيات مصر أو دول عربية أخرى. بل قل لا تختلف كثيراً عن تورا بورا!
هذا مجرد نموذج، والمعضلة الفرنسية تقودنا إلى النتيجة المنطقية وهي أن الإرهاب عدو للجميع: للمسلمين ولأصحاب الديانات الأخرى، للدول الإسلامية والعربية وللعالم، للدول المتخلفة وكذلك المتحضرة، وأن العلاج لا بد من أن يتجاوز المصالح الضيقة لدولة أو حتى لقارة، وأن استخدام الجماعات الراديكالية لحسابات سياسية خلَّف دائماً عنفاً وإرهاباً دولياً انتقل من موقع إلى آخر ومن دولة إلى أخرى.
دعم الغرب الجماعات الإسلامية في أفغانستان في مرحلة، ثم وقع الصدام بين الطرفين في مرحلة أخرى، وبعد سنوات عاد ليدعم «الإخوان المسلمين» في مصر ودول أخرى، وتحالف أو استخدم جهات وجماعات ومنظمات أخرى في السودان وليبيا واليمن والعراق وسورية ولبنان. وكما النظريات العلمية الدقيقة، فإن المحصلة أن إرهاباً طال الغرب بعدما أنهك الدول العربية وقسّم بعضها!
أحدى أهم المعضلات التي يواجهها الغرب تتعلق بغياب القدرة على الفصل بين مبادئه وتراثه الديموقراطي ودعمه للحريات وبين تعامله مع أشخاص وأحزاب وجماعات لا يدرك حقيقتها أو قل خطورتها، وإذا أضفنا إليها المعضلة الأخرى الأهم وهي استخدام الإرهاب عمداً حين يكون موجهاً ضد حكومات أو أنظمة مطلوب إسقاطها أو استنزافها أو ابتزازها فإن حلاً للمشكلة المعقدة لن يكون، وسيظل الإرهابيون يلعبون على التناقضات ما بين سنة وشيعة، ومسلمين ومسيحيين، ودول متقدمة وأخرى متخلفة، وتعليم وجهل، وغنى وفقر.
دفعت الدول العربية والإسلامية ثمناً باهظاً للإرهاب وكذلك الولايات المتحدة وباقي منظومتها الغربية. وسيظل الجميع يسدد بقية الثمن طالما لم يتفقوا على تعريف للتطرف وما دام الإرهاب وسيلة يستخدمها الكبار غالباً والصغار أحياناً!