IMLebanon

على باب باريس.. وباريس على باب الله

 

 

يُقال: «أنا على باب الله». أي: أنا لا أملك شيئاً ولا مالاً، أو أنا غير قادر على أمرٍ معيّن، ولكني أسأل الله مساعدته لي بالرزق والعطاء، وتيسيره لأمري بحوله وقوّته. وقد تأتي هذه العبارة بمعنى أنني فقيرٌ ومفتقرٌ إلى الله مهما كان لي من الأشياء والأموال وسلطان الأمر، وللّه ملك السموات والأرض، وهو الملك، القدوس، القوي، المتين، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام. فمن هو على باب الله بهذا المعنى الأخير أو بمعناه الأول لا تُفرِّق بينهما الحاجة والافتقار إلى الله في تحقيق الغايات والمراد، وإنّ لبنان على باب باريس وقف، وإن باريس بعد الدوحة على باب الله.

محطّات عديدة وقف فيها لبنان في أزماته الأخيرة عند الباب الفرنسي دون جدوى. مبادرات فرنسية متأرجحة ومتحورة منذ انفجار ثورة 17 تشرين الأول 2019، إلى انفجار مرفأ بيروت 4 آب 2020، إلى تعطيل العمل بالدستور وعرقلة تشكيل الحكومات، ثم عرقلة أعمال الحكومات وتمييعها وتشليعها، وتفريغ سدة الرئاسة وتمديد غفوة الظهيرة لظهيرة يومٍ آخر لا يعلمه إلّا الله. وهذه باريس العائدة من اجتماعات الخماسية في قطر قد ذيّلت سقوط مبادرتها الداعية لانتخاب ثنائية «فرنجية-سلام» بتوقيع البيان المشترك الصادر عن مجموعة الخمسة، والداعي إلى تعجيل أعضاء البرلمان اللبناني بانتخاب رئيس جديد للجمهورية وفقاً لأحكام الدستور، ولتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والقضائية المطلوبة وتحقيق الرفاهية والأمن في لبنان، والابتعاد عن دعوات الحوار الفارغة من مضمونه لمجرد الرغبة بتضييع الوقت الثمين من حياة اللبنانيين وأجيالهم الصاعدة، وإدخال البلاد في نومة أهل الكهف والسنين.

ما أجمعت عليه الدول الخمسة: الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والمملكة العربية السعودية ومصر وقطر، هو في مواصفات الرئيس النزيه الذي يمكنه تولي مسؤولياته الدستورية والوطنية وإعادة النهوض بمؤسسات الدولة، ويدفع نحو تشكيل حكومة قادرة على إنجاز الإصلاحات والعمل بتوصيات صندوق النقد الدولي، والالتزام بالقرارات الدولية ولا سيما قرارات مجلس الأمن والقرارات ذات الصلة بما في ذلك قرارات جامعة الدول العربية. ولا شك في أن هذه المواصفات لا تنطبق على مرشح الثنائي الشيعي «سليمان فرنجية» بسبب معارضة وصوله من قبل الكتل المسيحية الكبرى في المجلس النيابي. أما ترشيح قائد الجيش العماد «جوزاف عون» وإن كان يحظى بالقبول لدى دول المجموعة بسبب تطابق مواصفاته الشخصية مع تطلّعات الخماسية للإصلاح والخروج من الأزمة المستعصية، إلّا أن هذا الخيار يبقى مستعصياً حتى من الناحية المبدئية في حال إجماع الكتل والنواب الشيعة على رفضه كحل توافقي، وهو ما سوف يجعل منه مرشح تحدٍّ ورئيساً فاقداً للميثاقية في حال وصوله، وهذا ما لن يسير به أحد من الأطراف الداخلية والخارجية.

وهكذا يُنتظر من عودة المبعوث الفرنسي الرئاسي «جان إيف لودريان» إلى لبنان إذا حافظت على موعدها في هذا الأسبوع أن تعيد طرح النقاش حول العديد من المسائل والنقاط المحيطة بانتخابات رئاسة الجمهورية والأزمة اللبنانية، ومنها الآتي:

• الإجماع الدولي على حل الأزمة اللبنانية عن طريق حوار دولي يشمل إيران في صيغة (5+1)، وإن كانت هذه الصيغة بحاجة إلى بلورة أكثر في ظل ما يدلي به كل طرف لجهة عدم الابتعاد عن التدخل في الشؤون اللبنانية.

• التعبير الدولي عن احترام سيادة لبنان وعدم التدخّل في شؤونه، مع الحاجة الملحّة إلى تقديم كافة وسائل الدعم للبنان من أجل العمل على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والقضائية وتحقيق الرفاه وتعزيز الأمن والاستقرار.

• الإقرار بعقم وفشل الحوار الداخلي بين الأطراف اللبنانية بسبب تعنّت كل طرف في موقفه وفي حساباته الضيقة بانتظار المحرِّكات الإقليمية والتسويات الدولية التي لم يجد لبنان مكانه فيها لغاية اللحظة.

• استبعاد أي حل عن طريق العودة إلى طرح الحوار الداخلي بالصيغ القديمة المعروفة، ولا سيما في ظل الشغور في سدة الرئاسة الأولى، والفراغ المنتظر في منصب حاكم مصرف لبنان في نهاية هذا الشهر، وأزمة الميثاقية.

• وفي حال عدم اعتماد صيغة (5+1) والاكتفاء بدور إيراني غير مباشر عن طريق فرنسا وقطر أحياناً؛ التحضير لاجتماع دولي بخصوص لبنان تتقدم فيه الرؤية العربية المشتركة لصالح لبنان على الرؤى الفرنسية والأميركية، وذلك من خلال تثبيت التمسّك باتفاق الطائف وتظهير الضمانات اللازمة لجميع مكونات الشعب اللبناني.

لن تتخلّى فرنسا عن دورها ومصالحها المشتركة في لبنان، ولكن ما كان لافتاً ومفاجئاً عبارات استعلاء وتمنين غير مقبولة صادرة عن سفيرة فرنسا في لبنان السيدة «آن غريو» في احتفال قصر الصنوبر في العيد الوطني لفرنسا في الرابع عشر من تموز 2023، حيث قالت: أين كنتم اليوم لو أن فرنسا لم تحتضن مع شركائها قواكم الأمنية؟ أين كنتم لو أن قوات اليونيفيل التي تضم 700 عسكري فرنسي لم تكن تؤمّن الاستقرار في جنوب لبنان؟ أين كنتم اليوم لو أن فرنسا لم تحشد جهود المجتمع الدولي ثلاث مراتٍ متتالية لتجنبكم إنهياراً عنيفاً تحت وطأة الإفلاس المالي وتدهور الليرة والانفجار في مرفأ بيروت؟ أين كنتم لو أن فرنسا لم تدعم المدارس ولا سيما الخاصة والمسيحية، وعمل المستوصفات والمستشفيات وبرامج الأمن الغذائي، وأعمال الشركات الفرنسية وفرق العمل المحلية فيها؟

تحياتنا دائمة وموصولة إلى فرنسا الصديقة، وتحية وشكر إلى الأشقاء العرب وجميع الأصدقاء على ما قدّموه ويقدّموه من خير إلى لبنان. وللتذكير فقط؛ على باب باريس وقف الشعب اللبناني بغالبيته، وبعاطفة كبيرة وجامحة تكاد تكون، ينتظر قدوم الرئيس المخلِّص «إيمانويل ماكرون» بعد انفجار أو تفجير المرفأ. حضر الباريسي برصيد كبير من الحب الفيروزي وعلقت الآمال الكبيرة على دبلوماسيته وقوة فرنسا، ثم بدأت السقطات وانتكاسات المبادرات من كل اتجاه، وتوالت الهزائم السياسية للدبلوماسية الفرنسية على صعيد الحلول في لبنان حتى شُدّت الرحال إلى الدوحة في اجتماع الخماسية الذي أنهى عملياً مبادرة فرنسا المؤيَّدة من قبل الثنائي الشيعي والداعية إلى إجراء حوار هادئ بين اللبنانيين، وهذا ما أكده وصرّح به رئيس الهيئة الشرعية في حزب الله الشيخ «محمد يزبك» أن الرهان على الخماسية قد سقط ببيانها الأخير بسبب تجاوزها الحوار الوطني اللبناني، وأن هذا البيان عبارة عن أفكار أميركية كتبت بصياغة خماسية.

في خلاصة الأزمة الرئاسية وتعطيل الدستور وشلّ النظام البرلماني اللبناني ومنعه ممارسة واجباته ومسؤولياته في انتخاب الرئيس العتيد، وغياب الإصلاحات الاقتصادية والقضائية عن مؤسسات الدولة في لبنان، وفي ظل تكريس هيمنة القوى الطائفية على حساب الشعب والوطن والدولة القادرة، كلمة أو عبارة تصف الكثير من الأحداث بالقليل من الأحرف: «على باب باريس وقف لبنان، وباريس وقفت طويلاً على باب حزب الله، واليوم أصبحت باريس على باب الله».