ربما التبدّل السريع في المزاج الانتخابي الأوروبيّ الذي ظهر جلياً في الانتخابات الفرنسية الأخيرة، حيث تصدّرت اللوائح اليمينية النتائج في الانتخابات الأوروبية وفي الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية، ثم التراجع إلى المرتبة الثالثة لصالح أقصى اليسار، ممّا يؤشر إلى ارتباك واضطرابات سياسية على الساحة الفرنسية، وبالتالي على المزاج الأوروبيّ بشكل عام.
خلفيات هذا الاضطراب..
في الموروث السياسي التاريخيّ لأوروبا التي كانت في صدارة المشهد لقرون طويلة، عبر الأمبراطوريات والتي شكّلت جزءاً رئيسياً في علم السياسة وسياسات العالم من الثورات الاجتماعية الى الثورة الصناعية والمبادئ والأفكار التي ما زالت إلى يومنا هذا تشكّل العمود الفقري لكثير من المراجع والمدارس الدستورية. وأوروبا التي زرعت القيم في السياسة العالمية من الحرّية الى المساواة والعدالة، والقيادة والريادة الاقتصادية، ليست أوروبا اليوم التي تغرق في اضمحلال القيم الاجتماعية وغياب المرجعية الدينية وتراجع الثقل البابوي لصالح غوغائية العولمة التي طالت كافة القطاعات، وانعكست على الدور والأداء السياسي الآخذ في التراجع على كافة المستويات، لتتحوّل من مركز صناعة السياسات العالمية الى ملحق للسياسات التي باتت تُصنع في عواصم بعيدة من القارة التي صنعت الجزء الأهم من التاريخ السياسي على الساحة العالمية.
أوروبا هذه تقف حائرة اليوم بين القبول بهذا الواقع والتعامل معه على قاعدة النكران والهروب الى الأمام، وبين التيارات التي تحاول أن تعيد لأوروبا مركزية القرار، وسط سباق على السلطة العالمية بين الغرب وبين شرق متنامٍ متصاعد، تجد القارة العجوز تقف في بالغ العمر، تبحث من جديد عن الهوية، أي أوروبا ستكون في السنوات العشر المقبلة.
أوروبا الضعيفة الملحقة اقتصادياً، أم أوروبا التي تقف على أطلال أمجاد الماضي، ولا تستطيع أن تقدّم شيئاً للحاضر والمستقبل. أوروبا التي تسير مع الغرب في حروبه وتحالفاته من دون أن تقيم الحساب لمصالحها السياسية والاقتصادية. أوروبا التي تتراجع اقتصادياً في ظلّ ضعف العجلة وتراجع الصناعة وغلاء الطاقة وضعف القدرة على المنافسة، واستحواذ التنين الصيني على الأسواق. أوروبا التي تريد أن تعادي روسيا الأوروبية كرمى لأعين الناتو، وتطلق النار على نفسها من خلال العقوبات على روسيا مصدر الطاقة الوحيد لديها.
أزمات أوروبا الاقتصادية تنعكس على السياسة
ويُرجع أصحاب الاختصاص في علم النفس السياسي هذه التقلّبات في المزاج العام والمزاج السياسي عموماً والتقلّب الأخير في أوروبا وفرنسا تحديداً، الى الأزمات الاقتصادية والى عجز الحكومات المنتخبة حديثاً عن معالجة هذه الأزمات وعدم القدرة على إعطاء خطط مقنعة ونتائج فعّالة.
أبزر هذه الأزمات..
ارتفاع الديون والعجز، حيث وصل الى أعلى مستوياته في كل من فرنسا والمملكة المتحدة. ففي فرنسا، يبلغ الدين الوطني 112% من الناتج المحلي الإجمالي، ارتفاعاً من 97% في عام 2019. وشهدت المملكة المتحدة زيادة مماثلة مع ارتفاع الدين العام إلى 104% من الناتج المحلي الإجمالي من 86% في عام 2019. وأفاد صندوق النقد الدولي أنّ عجز الميزانية في الاقتصادات المتقدّمة الكبرى ارتفع بنسبة 3 نقاط مالمملكةئوية عمّا كان عليه قبل وباء كورونا.
المشاكل الاقتصادية في المملكة المتحدة
وفي المملكة المتحدة، تعهّد حزب العمال المنتصر بقيادة رئيس الوزراء كير ستارمر، بزيادة الإنفاق على الخدمات العامة، بما في ذلك خدمة الصحة الوطنية.
ومع ذلك، فإنّ معهد الدراسات المالية البريطانيّ ينتقد جميع الأحزاب الرئيسية لتجنّبها الخيارات المالية الصعبة في بياناتها الرسمية، وارتفع الدين العام في المملكة المتحدة، حيث أعلن صندوق النقد الدوليّ عن تخطّيه نسبة 104% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام.
ألمانيا أيضاً تحت المجهر
حتى ألمانيا المعروفة بحذرها الماليّ، تحوّلت إلى عجز كبير في الميزانية عوضاً عن الفوائض التي حققتها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
دخول دول جديدة الى الاتحاد الأوروبي وقطع العلاقات مع روسيا والانخراط في صراع الغرب والتراجع في السباق الاقتصادي والتكنولوجي مع الصين ومشكلة اللجوء الأجنبي الى القارة الأوروبية والأكلاف الاجتماعية والصحية والتضخم، كلها عوامل جعلت من الأجواء الأوروبية ملبّدة ومثقلة وغير واضحة، وأدّت الى كل هذه التقلّبات في المزاج السياسي. فأوروبا اليوم بالرغم من أنّها القارة العجوز، تبدو كأنّها المراهق الذي يبحث من جديد عن هويته العرقية، الدينية، الثقافية والسياسية. وهي كذلك كالمراهق الذي لا يعرف الانتقال الى مرحلة النضوج، ولم يخرج بعد من القصر ويعيش كل هذه التقلّبات النفسية التي تظهر واضحة خلال أيام معدودة في صناديق الاقتراع.