تتحضَّر فرنسا لمبادرة جديدة في اتجاه رئاسة الجمهورية اللبنانية مباشرة بعد عيد الفصح لدى الموارنة، على عكس ما يُروّج له البعض بأنها وصلت الى مرحلة اليأس في التعاطي مع هذا الملفّ، على رغم أنّ أفقه لا يزال مقفلاً.
لا تريد باريس أن تُصبغ بصبغة الفشل الرئاسي للمرة الثانية بعد محاولتها الأولى عام 2007، لذلك تحاول المساعدة على إنجاز هذا الإستحقاق، خصوصاً أنها لا تتحمّل مزيداً من التراجع على الساحة الدولية.
فالإخفاق في الملفّ النووي الإيراني، أو على الساحة السورية، ليس خسارة كبيرة بالنسبة إليها، لكنّ الكارثة الحقيقيّة تتمثّل في عدم قدرتها على التقدّم ولَو خطوة واحدة في انتخاب الرئيس اللبناني، الماروني، بعدما تعهّد الملك الفرنسي لويس الرابع عشر في رسالة إلى البطريرك الماروني حنا بواب الصفراوي عام 1649 بحماية طائفته رسمياً، قبل أن تعطي فرنسا إمتيازات للموارنة في عهد الإنتداب، وتبني لهم دولة، بدأوا يخسرون نفوذهم فيها تدريجاً.
ينقل الزوّار الموارنة، الذين قصدوا العاصمة الفرنسية أخيراً، لوماً فرنسيّاً على اللبنانيين عموماً، والموارنة خصوصاً، لتركهم البلاد بلا رئيس، إذ تستغرب باريس إخفاق القادة الموارنة في هذا الإستحقاق على رغم رؤيتهم المجازر التي تصيب مسيحيّي الشرق.
واللافت أنّ الفرنسيين أخرجوا من أرشيفهم بعض التقارير التي تعود بالذاكرة الى مرحلة رجال الدولة الكبار الذين مرّوا على لبنان في عهد الإنتداب، وبعده. والمضحك المبكي، أنه وفي إطار توصيف الوضع الماروني الراهن، روى أحد المسؤولين الفرنسيين أمام أحد الزوّار الموارنة، الأيام الأخيرة من حكم الرئيس كميل شمعون الذي كان أعضاء كتلته النيابية يسعون للتمديد له، فاندلعت ثورة 1958.
بعدها، زار المبعوث الأميركي ريتشارد ميرفي، شمعون، وقال له إنّ «الإدارة الاميركية تتمنى عليك انتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب»، فانزعج شمعون وطلب منه العودة بعد يومين. بعد يومين عاد ميرفي وأبلغ إليه أنّ أميركا تطلب منه انتخاب شهاب، فلم يُجِبه، ليعود بعد يومين أيضاً ويُبلغه: «بلادي قرّرت انتخاب شهاب».
فاجتمع شمعون بأعضاء كتلته، وطلب منهم النزول الى مجلس النواب وانتخاب شهاب لتفادي الفراغ الرئاسي. وعلى رغم اعتراض النواب، وعلى رأسهم كاظم الخليل الذي أصيب بعارض صحي وطُبّب في قصر القنطاري (مقر الرئاسة الأولى سابقاً)، إختار شمعون لبنان والرئاسة أولاً.
هذه الذكريات الفرنسية عن رجال الدولة الموارنة، وعلى رأسهم شمعون، تغيب في الزمن الحالي مع منطق مرشّح «أنا أو لا أحد»، ورفض البعض إنقاذ الرئاسة من فراغها.
لذلك، قرّرت الإدارة الفرنسية، حسبما أبلغت إلى زوّارها الموارنة، إرسال موفد فرنسي وكلّفته بمهمة رئاسية جديدة بعد عيد الفصح في 5 نيسان المقبل، على أن يكون إمّا رئيس دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الخارجية الفرنسية جان فرنسوا جيرو أو مَن تنتدبه باريس، لأنّ لجيرو مهمات أخرى كلّفته بها بلاده.
ستشمل جولة الموفد القيادات المارونية وعلى رأسها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي والقادة السياسيين، وسيطّلع على مجريات الحوار المسيحي- المسيحي وسبل المساعدة، على أن يلتقي بقية القادة من مختلف الطوائف، وسيكمل المهمة التي بدأها جيرو اذا لم يستطع الحضور شخصياً.
تضع باريس كلّ ثقلها وتؤكد إصرارها على إنجاز الإستحقاق الرئاسي بالتنسيق مع الفاتيكان الذي يركّز جهوده وعمله مع الإدارة الأميركية، لأنه يعرف أن الجزء الكبير من الحل يكمن في واشنطن التي تحاور طهران على الملف النووي.
وتحاول دوائر الفاتيكان إنجاز هذا الاستحقاق في أسرع وقت ممكن، وعلى رغم أنّ اميركا لا تقِف عائقاً في وجه الاستحقاق إلّا أنها لا تستعجل إنجازه، من هنا يُحاول الفاتيكان استعجال واشنطن لوَقف النزيف المسيحي البشري والسياسي وعودة الرئيس المسيحي الوحيد في الشرق الى تأدية دوره.
بين فرنسا والفاتيكان، وبين واشنطن وطهران، تقاطعات تساعد على بلورة رؤية رئاسية. لكنّ كل ذلك لا ينفع إذا لم يساعد الموارنة أنفسهم، فهل يردّ الموارنة الجميل التاريخي لفرنسا بمساعدة أنفسهم أو يفشّلون مهمتها مرة جديدة ويفشلون بدورهم؟