في لبنان لا «جمرك على الكلام»، خصوصاً إذا صدر عن شخصية رسمية آتية من دولة استعمارية. كلّ تصرّف من قبل هؤلاء مباح، حتى لو مسّ سيادة الدولة وكرامة مواطنيها (تصريحات السفراء الأميركيين المتعاقبين وأداؤهم لا تشي بغير ذلك)، حتى تخال أن معظم الوافدين الرسميين الذين يزورون البلد يعرفون مسبقاً أن مضيفيهم سيهتمون بنوعية المازات التي سيقدّمونها لهم أكثر من مضمون تصريحاتهم، فلا يقيسون كلامهم ولا يصونون لسانهم. لن يحاسبهم أحد.
آخر زائر من هذا النوع جاء من فرنسا، وزير الاقتصاد الفرنسي السابق وأحد المرشّحين الحاليين لرئاسة الجمهورية، إيمانويل ماكرون، الذي حطّ في بيروت قبل يومين، في «جولة شرق أوسطية» ستقوده أيضاً إلى الأردن. ماكرون السياسي الشاب (٣٩ عاماً) ذو الخلفية المصرفية، هو وجه جديد في الحياة السياسية تعرّف إليه الفرنسيون عام ٢٠١٤ عند توزيره بعد أن عمل في كواليس إدارة فرانسوا هولاند وانشقّ عنه أخيراً وأسس حزبه الخاص. لا مجال هنا للتوسّع في «بروفيل» ماكرون المصرفي ــــ السياسي ومحطات فشله ونجاحاته، لكن الوزير السابق يواجه حالياً في بلاده فضيحة تتعلق باستخدام مخصصاته من أموال وزارة الاقتصاد (أي الأموال العامة) لتمويل حملات حزبه السياسي «En Marche!»، الذي أطلقه قبيل استقالته من منصبه في آب الماضي.
أعلن الزائر الفرنسي أنه «ضد ممارسة أي ضغط على إسرائيل»
كلّ ذلك لا يهمّ في معايير «حسن الضيافة اللبنانية». فقد سعى منظمو زيارة ماكرون إلى أن تأخذ المحطة بُعداً رسمياً انتخابياً رغم عدم وضوح هوية الجهة الداعية وسبب الزيارة. ولأن في لبنان يمكنك أن تكون رئيساً قبل أن تُنتَخب، حلّ المرشّح كرئيس عتيد، واستقبله رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الوزراء سعد الحريري والبطريرك بشارة الراعي و»تنقّل بموكب مصفّح!» بحسب إحدى الصحف الفرنسية. بعض المواقع الإخبارية الفرنسية قالت إن «هولاند والخارجية الفرنسية هما من حضّرا زيارة ماكرون خلف الكواليس» الأمر الذي نفاه الإليزيه أمس. المرشّح «التقدّمي» كما يصف نفسه، وفي لقائه مع الحريري، أطلق وعوداً انتخابية ركّزت على إعادة الزخم للعلاقات الاقتصادية والمشاريع المشتركة، كما اختار أيضاً أن يزور، مع الوفد الصحافي المرافق، أحد مراكز سكن اللاجئين السوريين في عين الرمّانة، لزوم الدعاية الانتخابية.
لكن ماكرون قرر أيضاً أن يستغلّ ملعب لبنان المفتوح ليطلق مواقفه السياسية المتعلقة بالمنطقة، وأوقح ما جاء فيها تصريحان في محاضرة ألقاها في «المعهد العالي للأعمال» ESA. هناك، في إطار الحديث عن «حملة مقاطعة إسرائيل» الدولية، رفض ماكرون الاعتراف بأحقية الحملة وشرعيتها، وذكّر بقرار رسمي فرنسي مثير للجدل صدر عام ٢٠١٥ يجرّم مقاطعة إسرائيل، وقال إنه «لا يمكن العودة (للكلام عن) هذا الموضوع». بعدها قرر المرشّح الذي يرفع شعار «السلام والإنسانية» في حملته أن يحسم موقفه من الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، فأعلن من الأراضي اللبنانية التي لا تزال في حالة حرب مع العدو الإسرائيلي أنه «ضد اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية من دون اتفاق سلام بين الطرفين»، وأنه «ضد ممارسة أي ضغط على إسرائيل»، كما نقل موقع «آي ٢٤» الإخباري الإسرائيلي وبعض الصحف الفرنسية. ماكرون لا يريد الاعتراف بفلسطين ولا يريد حتى إعطاء حق مقاطعتها اقتصادياً وأكاديمياً لمن يريد ممارسة هذا الحق في التعبير، وهو قبل أي شيء لا يريد أن توضع إسرائيل تحت أي نوع من الضغوطات… للمرشّح الفرنسي حساباته الانتخابية، بلا شكّ، لكن الملامة هنا على مَن يسمح من المسؤولين بأن تطلق هذه التصريحات الرسمية من بلد ما زال يدفع ثمن الاحتلال الإسرائيلي بدم أبنائه حتى اليوم.
إيمانويل ماكرون، لا أهلاً بوقاحتك ولا سهلاً.