حتى الآن، مرّ أسبوع إضافي على المهلة المحددة من جانب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لتأليف حكومة برئاسة مصطفى أديب، ولا تزال المفاوضات في مربعها الأول: مع مداورة أو بلا مداورة. لم تغرق المشاورات بعد في متاهة الأسماء وفي مستنقع توزيع الحقائب. وهذه وحدها قد تحتاج إلى أيام وأيام، واتصالات مكثفة عابرة لـ”المتوسط” يقوم بها ماكرون شخصياً أو يتولاها مدير الاستخبارات الخارجية برنارد ايمييه، أو قد يضطر السفير الفرنسي برنارد فوشيه إلى التدخل عبر اجراء بعض اللقاءات المحلية، كما فعل مع البعض من باب توضيح الالتباسات. وعلى الرغم من تجاوز المشاورات المهلة المحددة، والتي ألزم رئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب نفسه بها، كونه “وليد” المبادرة الفرنسية ونتاجها، إلا أنّه لم يتقدم باعتذاره ولو أنّه أبلغ المحيطين به منذ اليوم الأول لتكليفه انّه سيتقدم بمسودته الحكومية وبكتاب اعتذاره دفعة واحدة. لكن حتى الآن، لم يقدم أديب لا مسودة ولا كتاب اعتذاره.
لا يحسد رئيس الحكومة المكلف على موقفه. مكبّل من كل الجهات. في قرارة نفسه، قد يرغب الرجل في الخروج من معمودية النار التي رمته فيها الخلافات الناشئة بسبب حقيبة المال، ويعود إلى برلين إلى مقر السفارة اللبنانية ويريح رأسه من وجع رئاسة حكومة قد تلتهمها النار عند أول مفترق طريق. ولكنه “لا حول ولا قوة له”. الفرنسيون لن يرضخوا بسهولة لدلع القوى السياسية وانعدام حسّ المسؤولية لديهم، ولن يسجلوا عليهم خروجهم السريع من المستنقع اللبناني خاليي الوفاض. بالأساس، لم يترك ماكرون قصر الاليزية ليقوم برحلة سياحية بين الجميزة وبعبدا وقصر الصنوبر. لبلاده مصالح استراتيجية يحاول استلحاقها وتأمين حصة دولته منها قبل أن يضع كبار اللاعبين أيديهم عليها. ولهذا قد لا يستسلم بسهولة لمناكفات قد يظنّ راصدها لوهلة أولى أنها تحصل في سويسرا أو في دولة تعاني من كل شيء، إلا من انهيار شامل قد يحولها إلى أرض محروقة بين ليلة وضحاها! ولهذا لم تتردد وزارة الخارجية الفرنسية في الإشارة يوم الجمعة إلى انه “ينبغي على القوى السياسية اللبنانية الاضطلاع بمسؤولياتها وتشكيل حكومة على الفور”، وهي “تأسف لعدم التزام الساسة اللبنانيين بتعهداتهم التي أعلنوها في أول سبتمبر أيلول وفقا للإطار الزمني المعلن”. وهذا ما يؤكد أنّ باريس لم ترفع يديها بعد، وإن تقصدت خلال الساعات الأخيرة تجميد اتصالاتها ومساعيها مع القوى اللبنانية.
في المقابل، فإنّ اعتذار أديب قد يكون مخرجاً للجميع ما قد يعيد المشاورات إلى مربع البداية بشكل ينزع الإحراج عن رباعي رؤساء الحكومات السابقين الذين تحوّلوا إلى واجهة لرئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري الذي يردد خصومه أنه راح يركب “طرابيش” التشكيلة الحكومية وفق أجندة ترشيحاته الوزارية من دون التنسيق مع أحد. لكنّ المعضلة تكمن في الضربة التي سيسددها الاعتذار للمبادرة وتحديداً للرئاسة الفرنسية اذا ما أسقط مسعاها بـ”لكمة” حلفائها المفترضين “القاضية”. حتى أن نادي رؤساء الحكومات السابقين لن ينجو من نيران الاعتذار، على اعتبار أنّ تسمية أديب جاء نتيجة طبخة هذا النادي وصناعته، وإذ به لا يدخل السراي مؤلفاً. وقبل استراحة نهاية الأسبوع، كانت المشاورات توقفت عند تقدّم واحد، جرى على ضفّة الثنائي الشيعي الذي يقول المطلعون على موقفه إنّ باريس تفهّمت الخصوصية التي يرفعها هذا الفريق، من باب مطالبته بحقيبة المال حيث أبلغت الادارة الفرنسية الثنائي الشيعي عدم ممانعتها في ابقاء حقيبة المال في عهدته، على أن يتم الاتفاق على آلية لاختيار اسم الوزير.
في المقابل، فإنّ رباعي رؤساء الحكومات لا يزال عند موقفه ولو أنّه اعترف أنّ المبادرة الفرنسية “فرصة مهمة لإبعاد لبنان عن الانهيار والفتن والشرور المحدقة به”، ما يعني تمسكه به وعدم دفع رئيس الحكومة المكلف إلى الاعتذار ونفض يديه من طبخة التأليف التي تكاد تتحول إلى طبخة بحص. ولكن في الوقت عينه، يرفض الرباعي النزول عن السقوف العالية التي لجأ اليها، وحضّ الرئيس المكلف “على التمسك بصلاحياته كاملة لجهة تأليف الحكومة في أسرع وقت ممكن، بالتشاور مع فخامة الرئيس، وتحت سقف القواعد المنصوص عنها في الدستور”. ولو أنّ البيان لم يقدم معطى جديداً، إلا أنّ هناك من رأى فيه خطوة للأمام قد تسمح في فتح كوة في جدار التأليف بمجرّد التعامل مع المبادرة بكونها آخر الفرص المتاحة. لكن ثمة وجهة نظر أخرى تقول إنّ بيان الرباعي موجه إلى الادارة الفرنسية حصراً لغسل يديه من مسؤولية التعطيل، خصوصاً وأنّ ثمة معلومات تفيد بأنّ باريس أبلغت الرباعي أنّ مندرجات لقاء قصر الصنوبر لم تأت أبداً على ذكر المداورة، في محاولة منها لدفع هؤلاء للنزول عن “شجرة تصعيدهم” والابقاء على حقيبة المال بحوزة الثنائي الشيعي. في حين تنفي مصادر مطلعة على موقف رئيس الحكومة هذا الاحتمال. في موازاة ذلك، يتردد أنّ الثنائي الشيعي جهّز لائحة من مجموعة أسماء من المرشحين لتولي حقيبة المال وقد جرى ارسالها إلى رئيس الحكومة المكلف لاختيار من يراه مناسباً.
في خلاصة الوقائع المسجلة على رادار التأليف حتى ساعات المساء الأولى، كانت الاتصالات شبه جامدة على كل المحاور، لا سيما على الضفة الفرنسية. السفير ايمييه تجاهل اللبنانيين وعلّق تواصله مع القوى المحلية. ويفترض أن يكون اليومان المقبلان حاسمين في تطوراتهما… في حين تجزم مصادر مواكبة أن التوتر الأميركي – الايراني هو الذي يرخي بثقله على التأليف، وما العقد الداخلية الا تفاصيل لا تقدم ولا تؤخر.