تفخيخ المبادرة الفرنسية بدأ بالالتفاف على الدستور والتمسك بالهرطقات
هل يُعتبر مفاجئاً فشلُ المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس ايمانويل ماكرون لحل الأزمة اللبنانية، وهل يُعقل أساساً أن دولة عظمى كفرنسا – يحق لها – أن تُصدم باستحالة الإصلاح ومستوى فساد الطبقة السياسية في لبنان، وهل مسموح أصلاً لطبقة سلطوية ممسكة بالحكم وفق شرعية مشكوك فيها أن تضع المجتمع الدولي بين حدّي هزّ الاستقرار أو القيام بإصلاحات إنقاذية عاجلة لبلد يرزح تحت الحضيض؟ وهل من المقبول الاستمرار باستخدام سلاح الفوضى لتفريغ وتفشيل مساعي إنقاذ لبنان منذ باريس – 1 مروراً بكل المبادرات والمؤتمرات وصولاً إلى «سيدر»، خصوصاً مع إدراك الأسرة الدولية نجاعة عصا العقوبات وسيف تتبّع مسارب النهب في لجم تجاوزات هذه المنظومة؟
الالتفاف المتوقع على مساعي مصطفى أديب لتشكيل حكومة مُهمّة في لحظة شديدة الحراجة، ليس إجهاضاً لمسعى فرنسي مُربك فحسب، إذ سبق أن رسمَ كثيرون جداً علامات استفهام واستغراب حول مبادرة تتضمن تعويم منظومة السلاح وعهد ميشال عون في مقابل السماح بتشكيل حكومة إنقاذ مصغّرة من اختصاصيين لتحقيق إنجازات شبه مستحيلة تتصل بوقف الانهيار الاقتصادي والقيام بإصلاحات جذرية والحصول على مساعدات مالية دولية.. لكنهم أيدوا الاندفاعة الفرنسية، خصوصاً وأنها تزامنت مع كارثة المرفأ وما نتج عنها من حالة غضب داخلي ودولي عام بدا معه أن الطبقة السلطوية في لبنان ربما تخجل من وقاحة التعطيل فتقدم مصلحة البلد، ولو مرة واحدة، على أنانياتها القاتلة.
المنظومة لم تغير من عاداتها، بل استكملت خطوات خنق البلد بعد خطفه، من تفجير مرفأ بيروت «الغامض»، ثم سلسلة الحرائق الغامضة على يد «معلم التلحيم» نفسه، إلى استحضار «داعش» وخلايا الإرهاب وصولاً لتفخيخ مساعي ماكرون.. كل ذلك شكّل عناصر الانقلاب على المبادرة الفرنسية التي يعلم الجميع أنها الفرصة الأخيرة للإنقاذ.
مؤشرات الالتفاف.. تجاوز الدستور
في الطريق إلى إعلان فشل المبادرة الفرنسية رسمياً وتبلور ردة فعل باريس تجاه ما جرى، يجدر التذكير بسلسلة مؤشرات سبقت ذلك وكلها تصبّ في إطار عدم تخلي الطبقة السياسية عن «أدوات» العمل القديمة القائمة على ذهنية المحاصصة وسياسة التعطيل، بدءاً من الخطوة المستهجنة التي دَأَبَ عليها الرئيس عون مع تشكيل حكومات عهده، أي استشارات التأليف قبل التكليف وزاد عليها أخيراً استشارات الكتل بموازاة استشارات الرئيس المكلف، بوصفها سابقة ناشزة وسافرة في قضم الصلاحيات والاستهانة بالدستور والطائف، وتهدف إلى فرض أمر واقع مخالف لكل الأصول والأعراف والتقاليد ومصلحة البلد، وسط سكوت مريب من معظم الأطراف السياسية تجاه هذه الممارسات.
بإجرائه استشارات مع رؤساء وممثلي الكتل النيابية بعد صدور مرسوم تسمية رئيس الحكومة المكلف يعتبر تصرّف عون خرقاً للدستور، ليس للمرة الأولى، الذي ينصّ في البند 2 من المادة 63 على أن «رئيس الحكومة المكلّف (لا رئيس الجمهورية) هو الذي يُجري، بعد تسميته، الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة» ونقطة على السطر.
توازياً، استكمل آخرون هذه الاستهانة بالدستور والطائف من خلال ابتداع أعراف غير دستورية من خلال الادعاء بتطويب حقيبة وزارية معينة باسم طائفة أو منح الطوائف حق تسمية ممثلي مكونات للحكومة، وهو ما رفعه الثنائي الشيعي بخصوص وزارة المالية. هذا كلّه في كفّة وظهور وجوه وزارية مستفزّة وغارقة في الفساد والصفقات والسمسرات تبشّر بشعارات الثورة والعفاف والمدنية.. في كفّة أخرى لا تقل وقاحة وهرطقة واستهانة.
وأمام هذا التلهّي والاستهتار، سأل البطريرك الماروني بشارة الراعي «بأي صفة تطالب طائفة بوزارة معينة كأنها ملك لها، وتعطّل تأليف الحكومة حتى الحصول على مبتغاها، وتتسبّب بشلل سياسي وضرر اقتصادي ومعيشي؟!»، والجواب – يا صاحب الغبطة – هؤلاء نسوا دماء ضحايا تفجير بيروت، وآلام آلاف المصابين ومئات آلاف الجوعى، وهم يريدون حكومة سياسية موسعة، وثلثاً معطلاً، وحقائب رئيسية وحق تسمية الوزراء.. تشكيل الحكومة وفق الدستور ومعه المبادرة الفرنسية وضع جانباً، وعدنا إلى نقطة الصفر.
الإنقاذ مسؤولية تاريخية
أيضاً وايضاً، في الطريق إلى إعلان فشل المبادرة الفرنسية رسمياً وتبلور ردة فعل باريس تجاه ما جرى؛ على القيادات الروحية التي تنتقد ممارسات التعطيل، الانتقال إلى سقوف أعلى في سياق الحرب على المنظومة المتحكّمة، وطلب الدعم والضغط لتحرير لبنان من خاطفيه، فالشعب، كلّ الشعب، ما عاد يحتمل مزيداً من الإجرام والتجويع والإذلال.
وعلى القوى السياسية التي تميّز نفسها عن منظومة الحكم، بما يشمل الأحزاب المعارضة لهيمنة السلاح أو الذين استقالوا من مجلس النواب، أن يرفعوا سقف المواجهة وفضح كلفة الفراغ، سياسياً واقتصادياً ومالياً وحياتياً، إن كانوا يريدون فعلاً إنقاذ البلد.
وعلى الجيش والأجهزة القضائية مسؤوليات تاريخية بعد السماح بجرّ البلد إلى فوضى عامة، أو حساسيات أمنية لفرض أمر واقع ضاغط باتجاهات معينة، وعدم السماح باستخدام أجهزة الدولة، العسكرية والأمنية والقضائية، عصاً بأي أيّ كان.
وعلى أصدقاء لبنان، من العرب والعالم، الإسراع باجتراح خطوات عملية لإنقاذ الوضع، بالاتصالات والمواقف والتحركات العاجلة وغيرها… وعدم الركون إلى انتظار نتائج الانتخابات الأميركية أو المحادثات الإيرانية مع أي طرف دولي آخر.. لا أحد يملك ترف الوقت، والإصلاح على جثث اللبنانيين لا ينفع.
وعلى الثورة، في ذكرى سنويتها الأولى، مسؤوليات تاريخية بالتوحّد، والعودة للشعارات الجامعة بإسقاط المنظومة، وتشكيل حكومة مستقلين من أهل الاختصاص والسيرة النظيفة، وإعادة تشكيل السلطة وفق شرعية شعبية ودستورية صحيحة عبر انتخابات نيابية، وملاحقة الفساد والأموال المنهوبة، والضغط لإجراء تحقيق دولي بكارثة بيروت.. والتأكيد بأن الشعب لن ينسى ولن يسامح وسيحاكم.
الجميع كان يعلم مسار الأمور منذ انطلاق المبادرة الفرنسية، وخصوصاً مع دفع أفرقاء باتجاه تفريغ المسعى الفرنسي تحت ضغط التلويح بإدخال البلد بالفوضى والفراغ بعد الإفلاس والتجويع والقتل الجماعي، أو القبول بهرطقات دستورية كالتمسك بوزارة المالية لطائفة معينة، وهذا يعني السقوط بفخّ أن وزارة كذا لهذا ووزارة كذا لذاك.. أي العودة لذات الذهنية التي أغرقت البلد وأفلسته ودمرته.. مؤسفٌ، لكنه ضروري، القول أنّ الماكرون جرّوا ماكرون إلى هذه النهاية.. وتعجنوا بالأفراح يا أهل باريس.