IMLebanon

المبادرة الفرنسية والفيل الأميركي

 

لا يبدو أنّ المساعي التقليدية لتشكيل الحكومة ستفضي إلى انفراجات في ظلّ تمسّك الرئيس نبيه بري وحزب الله بوزارة المالية التي أُدخلت الى دائرة المقدس، لتنضم الى سابقاتها من القضايا المستعصية على المناقشة، برعاية الهوى الدمشقي حتى العام 2005 أو بعدها في حمّى الولي الفقيه. لقد راكمت الحقبة إياها تسميات وأعراف لم تتداولها أعرق الديمقراطيات ولا أعتى الديكتاتوريات، من المارد الذي خرج من القمقم بعد سقوط إتّفاق 17 أيار الى قدس أقداس الوزارات مؤخراً، مروراً بالتوقيع الثالث وقبلها الثلث المعطل أو الضامن وعدم جواز إجتماع المجلس النيابي قبل الإتفاق على اسم الرئيس والتأليف قبل التكليف، وذلك تبعاً للدور الذي يختاره التحالف إياه لكلّ مرحلة من المراحل.

 

فريق حركة أمل وحزب الله الذي حسم أمره بالإنتقال الى موقع المواجهة أو ربما وضع قسراً في الموقع إياه، لا يبدو آبهاً بالتخلي عن كلّ حلفائه الذين استظلّ وإياهم العباءة الدمشقية واستثمروا سوياً في العبث باتّفاق الطائف. يخيّم صمت خارج عن المألوف على حلفاء أمل – حزب الله يقطعه من حين لآخر تصريحات من هنا أوهناك، كان آخرها موقف رئيس الجمهورية ميشال عون الذي يرى في المبادرة الفرنسية الطريق الوحيد للنزول عن شجرة المستحيل التي تسلقها منذ توقيع «ورقة مار مخايل»، دون أن يُقدم على مطالبة الرئيس المكلّف تقديم تشكيلته الوزارية ليُصار الى توقيعها وإيداعها المجلس النيابي وفقاً للدستور.

 

يؤخذ على روّاد المبادرة الفرنسية، الرئيس «إيمانويل ماكرون» ووزير خارجيته «جان إيف لودريان» أنهما قاربا المسألة اللبنانية في العام 2020 بنفس الذهنيّة ونفس الأدوات التي قاد بها الـ«كي دورسيه» مفاوضات إعلان دولة لبنان الكبير. اختلف موقع فرنسا واختلف المفاوضون ولكن الرئيس الفرنسي المسكون بعبَق التاريخ الفرنسي في بدايات القرن الماضي، وبنشوة الإنتصار في الحربيّن العالميتين، لم يعلم أنّ فرنسا لم تعدّ في موقع القدرة على الإملاء وأنّ المتلّقي ليس البطريرك الياس الحويك، وأنّ الهواجس التي رافقت الوفد المفاوض حينها والتي اقتصرت على تأمين أكثرية مارونية في الكيان الوليد قد أضحت في موقع مختلف. لقد أصبح المسيحيون الذين كانوا يكابرون على القبول بالعروض الفرنسية خائفين على وجودهم في لبنان، وتحوّل المشروع البديل المطروح من مشروع عربي تفرضه حقائق التاريخ ورحابة الجغرافيا ويقوده الملك فيصل الأول إلى مشروع فارسي يخترق خرائط سايكس – بيكو ومقررات لجنة كينغ كراين التي رسمتها فرنسا وبريطانيا في كلّ من سوريا ولبنان.

 

المبادرة الفرنسية التي حازت على الموافقة الأميركية أصبحت في عهدة الولايات المتّحدة دون أدنى شك، لذلك لا يبدو اعتذار الرئيس المكلّف وارداً فليس هناك من طرح بديل متاح. التكليف الذي لا عودة عنه دستورياً أضحى ورقة قوة حيال التصلّب في عدم القبول بالمداورة، وحيال فكر أراد تغيير النظام قسرياً بقلبه رأساً على عقب، ويسعى الى قلبه اليوم بعنف آخر أداته نصوص قانونية بعد أن جعله أكثر انعزالاً وطائفية وجموداً. إنّ محاولة التغيير القسري ستجعل من المجلس النيابي مؤسسة فاشلة تصطف الى جوار حكومة مستقيلة ورئاسة جمهورية أعلنت بالأمس عجزها وخوفها بالفم الملآن أمام كل اللبنانيين.

 

تريد طهران مخاطبة واشنطن من الشرفة اللبنانية فيما تستعرض واشنطن أوراق قوّتها كلّ يوم، تارةً بعقوبات متدحرجة تطال طهران وملحقاتها، وتارةً أخرى بالكشف عن قدرات إيران النووية وعن مخزونها من نيترات الأمونيوم الموزّع على بلدان في أوروبا الغربية والشرقية. الى جانب ذلك تؤكّد واشنطن أحاديّة قدرتها على الإمساك بكلّ الملفات في الوقت نفسه. وإلا فكيف يمكن تفسير تراجع رجب طيب اردوغان عن عمليات التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وإلزام حليفه فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني في ليبيا بالاستقالة، وحصر تصدير النفط الليبي بالموانئ الخارجة عن سيطرة الميليشيات؟ بمعنى آخر امتلاك القوّة القاهرة لوقف عمليات القرصنة التركية ووقف زج المرتزقة في الحرب الليبية، بما يُطمئن دول الناتو وفي مقدّمتها فرنسا واليونان وإيطاليا حيال تركيا، وبما يُقنع الجميع أنّ ثروات البحر المتوسط النفطيّة هي رهن إشارة واشنطن؟ وفوق كلّ ذلك ألا يوحي تسارع عمليات التطبيع مع اسرائيل واحتمالات تمدّدها بأن المنطقة مقبلة على مواجهات محسوبة؟

 

يتعذّر رصد معالم المرحلة المقبلة في لبنان، كما يبدو أنّ طهران قد أساءت اختيار اللحظة المناسبة للمنازلة، وربما وقعت في وهم تقدير قوّتها في لبنان، وهمٌ بَنتهُ على المبالغة في تقدير الخوف الذي  طالما أبداه خصومها، أو المبالغة في تقدير الثقة التي أظهرها حلفاؤها نفاقاً وتملّقاً وتوظيفاً لسطوتها. لقد استطاعت طهران شأنها شأن أيّ قوة غاشمة تقويض الإستقرار في أكثر من دولة عربية حين كان ذلك مطلوباً من واشنطن، ولكنها لم تستطيع تحقيق أي انتصار بمنأى عنها. عجزت طهران عن تحويل شعبويتها المذهبية والميليشياوية الى تغيير في الدستور اللبناني والتأسيس لإحدى الجمهوريات التي ادّعت إسقاطها، وانهارت تحالفات الخوف والنفاق أمام التبدّل الكبير في ميزان القوى.

 

تغامر طهران بالاستمرار بتعنتّها ويغامر أنصارها بعدم البحث عن التموّضع المناسب في المجتمع اللبناني. تبقى المبادرة الفرنسية هي الإطار المناسب لتأمين تموّضع كلّ الطامحين داخل البيت اللبناني، لكن أياً من الفرقاء اللبنانيين لن يتحمّل كلفة دخول الفيل الأميركي.

 

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات