في “باب اليمن”، وسط مدينة صنعاء، حانوت صغير، في داخله جمل معصوب العينين مربوط بحجر رحى ضخم، يدور حوله ليطحن حبوب البهار. أمّا عن سبب عصب عينيه، فذلك حتى يتوهّم أنّه يمشي في الصحراء، فيسرع ولا يتوتّر، ولا يحرن ولا يتوقف عن العمل لأنه سجينٌ في الحانوت، على ما قال صاحبه.
والمبادرة الفرنسية أشبه بهذا الجمل. هي بدورها معصوبة العينين ومربوطة بحجر رحى، وظيفته طحن الوعود الكاذبة لهذه الطبقة السياسية الفاسدة والعاجزة والرافضة أي محاولة ترغمها على خسارة مكاسبها وتغيير مسارها.
وكأنّه يستحيل على من يتابع المبادرة في قصر الإليزيه أن يستوعب حجم الكذب في تكرار فطاحل هذه الطبقة أنهم متمسّكون بما حمله إليهم سيّد القصر؟
أم أنهّ يستعصي على الإدراك أنّ الفطاحل يملكون أنجع الوسائل التي تؤدّي إلى تفخيخ الطرح الفرنسي الطامح الى إنجاز يقارب الإعجاز؟
من هنا، يصبح احتمال كسب الرهان على فشل الموفد الفرنسي باتريك دوريل في مهمّته اللبنانية أكبر بكثير من إحتمال ربح الجائزة الأولى في “اللوتو”. ولعلّ مطالبة هذا الموفد بـ”حكومة اختصاصيين” شرط أن توافق عليها القوى السياسية تحمل دلالات هذا الفشل. فهذا الشرط هو فتيل من فتائل تفجير الجهود التي تسعى لتعويم هذه القوى شرط أن تتوقّف عن فسادها.
وفي حين يتبيّن أنّ المبادرة الفرنسية طبخة بحص، إلا أنّها ليست المثال الوحيد والفريد. فكلّ القرارات التي تتخذ هي أيضاً معصوبة العينين ومفخّخة.
وإلّا كيف نفسّر إصرار رئيس الجمهورية ميشال عون على التحقيق الجنائي بالرغم من وجود نصوص دستورية تمنع تنفيذه وصولاً الى المرتكبين؟
أو كيف نقرأ مشاركة لبنان من خلال وزيرين، في المؤتمر الذي دعت اليه روسيا في سوريا لعودة اللاجئين والنازحين السوريين الى بلادهم، في حين كان تدفّق هؤلاء اللاجئين عبر الحدود الشرعية وغير الشرعية خطّة مدبّرة من رأس المِحور الذي يدير هذا النظام وبهدف التغيير الديموغرافي المنشود، من جهة، وبهدف إرهاق الدولة اللبنانية بمزيد من الهموم الإقتصادية والإجتماعية والأمنية، من جهة ثانية؟
ولا يمكن تجاهل واقع أنّ العلل لا تقتصر على المنظومة. فاللبنانيون يحتاجون نفضة عنيفة حتى يغيِّروا ما بأنفسهم ليتمكّنوا من التماس سبيل الخروج باتجاه وطن ومؤسسات.
والقدرات الخارقة لدى الشعب اللبناني على التأقلم والإستمرار بالرغم من كلّ ما يتعرض له، هو مَكمن العِّلة بشكل ما. وعندما يرتفع ثمن سلعة ما، يرفع كثيرون أصواتهم بالإعتراض والتحليل وتوصيف نوعية الفساد المسبّب لهذا الإرتفاع. لكنّهم، وما إن يُفَرِّغوا بالكلام وجعهم، حتى يسارعوا للبحث عن السلعة بسعر أقلّ، ولو بقليل، ممّا هو في السوق، ويتباهون بشطارتهم.
هم أيضاً جِمالٌ معصوبو الأعين، يعترضون ثم يقبلون بما يتعرّضون له من نهب منظّم يجيده أهل المنظومة ومن لفّ لفّهم.
وهم أيضاً يدورون حول حجر الرحى الذي يطحن آمالهم وأمانهم وتعب عمرهم ومستقبل أولادهم.
لا عجب، فهم مواطنون ممتازون في جمهورية “فالج لا تعالج”.