كشف الإنهيار الدرامي للمبادرة الفرنسية حجم التباعد الذي يفصل بين الرئيس ماكرون ومعاونيه الديبلوماسيين عن الواقع السياسي اللبناني المعقد، ومدى الجهل الفرنسي بطبيعة التركيبة السياسية في لبنان وأساليب عملها الملتوية.
قد يكون خُيّل للفرنسيين أن الأحزاب اللبنانية وطنية الأداء والأهداف، وقياداتها تضع مصلحة الوطن فوق كل إعتبار، وهي حريصة على إنقاذ بلدها مهما بلغت التضحيات!
ولكن بعد تسعة أشهر على زيارة الرئيس الفرنسي إلى البلد المنكوب، تبين للفرنسيين، ومعهم كل الأشقاء والأصدقاء، أن المنظومة السياسية اللبنانية ليست فاسدة وحسب، بل غارقة في لجج من الفشل، وتتربع على عروش صخرية من الأنانية والمصالح الشخصية والفئوية، في ظل سلطة أتقنت ممارسة لعبة الإنكار والمعاندة، وأمعنت في تجاهل مهاوي الانهيارات وتداعياتها المدمرة على البلاد والعباد، وكأنها تعيش في برج عاجي لا يصل إليه أنين الناس ولا صرخات المقهورين.
بقيت المبادرة الفرنسية تدور في دوامة المناورات الداخلية الرعناء، وتتراجع خطوة وراء خطوة عن مندرجات خريطة الإنقاذ التي أُقرت في قصر الصنوبر برعاية ماكرون وحضور ممثلي كل الأطراف السياسية، إلى أن تم تفريغ الخطة من محتواها الجوهري، ومع ذلك لم تسلك طريق التنفيذ، وبقيت أسيرة الخلافات المستفحلة حول تشكيل الحكومة الإنقاذية.
ثمة عوامل داخلية، وأخرى خارجية، ساهمت في إجهاض الجهود الفرنسية، وإلحاق هزيمة موجعة بالديبلوماسية الفرنسية، وفاقمت ضغوط الفشل التي يتعرض لها ماكرون بسبب سياساته المحلية والدولية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
محلياً، تنصّل الأطراف السياسية والحزبية من إلتزاماتها مع الرئيس الفرنسي، لألف سبب وسبب، منها الداخلي، ومعظمها الخارجي على إيقاع الانتخابات الرئاسية الأميركية، واحتدام الصراعات في الإقليم، فضلاً عن تحول الإختلاف بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر إلى خلاف شخصي بين الرئيس المكلف سعد الحريري والنائب جبران باسيل، سرعان ما وصلت تداعياته إلى العلاقة المباشرة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، الأمر الذي أقفل كل الأبواب أمام تشكيل حكومة بمواصفات مقبولة وفي فترة زمنية معقولة.
لم تُفلح الاتصالات الفرنسية المباشرة مع أطراف الأزمة في تحقيق أي اختراق، وكان آخرها محاولة جمع «حليفيّ الأمس» و«خصميّ اليوم»، الحريري وباسيل في الأليزيه برعاية مباشرة من الرئيس الفرنسي. ولم يكن ممكناً للوزير لودريان أن يحقق في فصر الصنوبر، ما فشل رئيسه في تنفيذه في قصر الأليزيه، الأمر الذي إنعكس سلباً على أجواء اللقاءات مع المسؤولين اللبنانيين، بمن فيهم الرئيس الحريري، الذي كان يتمتع بدعم فرنسي غير محدود، على مختلف المستويات.
يُضاف إلى ذلك، أن المسؤولين الفرنسيين أكثروا في الحديث عن العقوبات الأوروبية قبل أن يضمنوا موافقة شركائهم الأوروبيين بالإجماع عليها، حسب ما تنص المادتين ٣٠ و٣١ من نظام الاتحاد الأوروبي، فكان أن ذهبت التهديدات أدراج الرياح اللبنانية، وأمعنت الأطراف المعنية في مناوراتها التعطيلية. لا سيما وأن إشارات لودريان الأخيرة عن إقتصار العقوبات على تدابير منع الدخول إلى الأراضي الفرنسية، أفقدت العقوبات الفرنسية الكثير من هيبتها وفعاليتها.
ومما زاد الدور الفرنسي تدهوراً، أن الوزير الفرنسي حضر إلى بيروت من دون أي أفكار جديدة من شأنها أن تساعد على تدوير الزوايا، وتفتح كوّة في جدار الأزمة الحكومية السميك، بل على العكس، جاء مستنفراً ومتوتراً كما ظهر في لقاءاته المقتضبة مع الرؤساء الثلاثة.
خارجياً، لم تحظ المبادرة الفرنسية بأي دعم حقيقي من عواصم القرار الدولي، ولا حتى الإقليمي، وبقيت واشنطن على عدم حماسها لتحرك الرئيس الفرنسي في لبنان، كما أن الرياض، وغيرها من العواصم العربية، لم تتجاوب مع المحاولة الفرنسية، أما طهران فكانت في موقع المعارض، بدون صخب، وتركت للأطراف المحلية أن تتولى المهمة عنها.
وجاءت التطورات الإيجابية المتسارعة في الأسابيع الأخيرة، وما شهدته بعض عواصم المنطقة من مفاوضات بين الرياض وطهران، وإعادة الحياة للعلاقات السعودية السورية، لتزيد من عزلة الديبلوماسية الفرنسية، التي خرجت من «المولد الليبي بلا حمّص»، ولم تستطع إكمال المشوار في الملف اليوناني التركي شرق المتوسط، وفقدان آخر موطئ قدم لها في المنطقة، بعد هذا الخروج الدرامي من الأزمة اللبنانية، وما يعني كل ذلك من ضغوط على المصالح الفرنسية في المنطقة، وخاصة بالنسبة لشركة «توتال»، ومركزها في قطاع النفط والغاز في دول الإقليم.
المعطيات في لبنان بعد سقوط المبادرة الفرنسية ليست مثل ما كانت عليه قبله. المسار الحكومي المتعثر أصلاً سيتعرض لاهتزازات قوية، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ستزداد انهياراً، في ظل هذا التخبّط المستمر لأهل الحكم في إدارة أخطر الأزمات التي يتعرض لها البلد.