IMLebanon

المغامرة بلبنان وأوهام التسويات

 

 

أسدلت الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت الستار على آخر فصول المبادرة الفرنسية التي افتقرت منذ انطلاقتها قدرة التأثير على المشهد اللبناني وأزماته المتداخلة. وبصرف النظر عن الشروط المحلية والتقييدات الدولية التي أدت إلى الخروج الحتمي للمبادرة من الحياة السياسية اللبنانية ـــ سواء أعلنت باريس ذلك أو لم تعلنه ـــ فمنطقي جداً القول أنّ هذه المبادرة برغم هزالها السياسي، كانت  آخر القنوات الدبلوماسية التي تربط لبنان بالمجتمع الدولي، والتي أبقته على قائمة القضايا التي تناقشها دول القرار، وإن يكن في أسفل درجاتها.

 

المشهد الآخر الذي علّق حضور لبنان كدولة إلى أجلٍ غير مسمّى، كان السلوك غير المسؤول والفشل الفاضح في اتّخاذ موقف وطني موحّد حول حدود المنطقة الإقتصادية الخالصة، وتوقف مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بما لا يرقى إلى أبسط قواعد الإحترام في العلاقات الدولية. الأسوأ من ذلك والأكثر مهانة كان الإختباء خلف الوفد المفاوض وذر الرماد في عيون اللبنانيين، من خلال مواقف عالية النبرة وفاقدة للقيمة. كان بإمكان الدولة إتّخاذ القرار الذي تريد، بصرف النظر عن صوابيته، ومباشرة التفاوض أو إعلان الإنسحاب من المفاوضات بما يوجّه رسالتين للداخل وللخارج بأنّ هناك إدارة سياسية تحترم موقعها ومواطنيها ولها قرارها.

 

الحدثان، الفرنسي في بيروت والأميركي في الناقورة، أقصيا لبنان عن آخر ما يصله بالمجتمع الدولي بقرار واضح بالعزلة اتّخذته سلطتة السياسية. اختار القيّمون على السلطة الإنكفاء بلبنان إلى ما دون مستوى الدولة. تحالَف دعاة العودة إلى الإمارة الطائفية التي تنشد ضمانات الحماية مقابل تأمين الجباية، مع الساعين لإثبات حتمية فشل مشروع الدولة الوطنية في لبنان أُسوةً بما يجري في العراق واليمن وسوريا، وكأنما هناك دعوة لكلّ الساعين لإنقاذ لبنان للبحث عن الحلول في عواصم فوّضت بالقرار اللبناني دون قيد أو شرط. الخيار بقطع الأوصال مع المجتمع الدولي أتى ليستكمل ضمور الدولة وتهشّم صورتها في الداخل، بعد أن فقد المواطنون ثقتهم بالقضاء والاقتصاد والأمن والنظامين الصحي والتربوي وكلّ مقومات الأمن والأمان.

 

إلى ماذا سيؤول كلّ ذلك؟ وهل يعتقد القيمون على القرار اللبناني أنّ مقومات وشروط انتقال المنطقة ومن ضمنها لبنان إلى مرحلة جديدة قد استُكملت، وهل  يعتقد هؤلاء أنّ التسريع في إسقاط الدولة في لبنان سيشكّل عاملاً محفزاً لإنجاز تسوية بديلة عن إتّفاق الطائف كجزء من المشهد الإقليمي الجديد؟

 

إنّ المسارعة إلى الإستنتاج أنّ موازين القوى المؤثرة في الشرق الأوسط قد انقلبت رأساً على عقب بما يلامس إعلان استسلام فريق لفريق آخر، وأنّ العودة لحقبة الوصاية ـــ بكلّ رموزها ــ التي عاشها لبنان منذ توقيع اتّفاق الطائف أصبحت حتميّة، وأنّ الوقت المتاح هو للهرولة نحو حجز موقع في المعادلة الجديدة، هو توهّم للقدرة لدى بعض الفرقاء اللبنانيين، وهو توق لمشهد أمني عاشه لبنان، واقتطاعه عن الظروف الإقليمية التي أنتجته منذ اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975.

 

إنّ توصّل المجتمعيّن العربي والدولي إلى اللحظة الموجبة لتسوية الطائف لم تمليه ظروف لبنانية، بل أتى استكمالاً لمسلسل بياني من الأحداث ابتدأت في أعقاب حرب 1973ـــ التي مثّلت تهديداً جديّاً لبقاء دولة إسرائيل ــ واتّخاذ الولايات المتّحدة القرار بإدخال المنطقة في مسار قسري للسلام يبدأ باستفراد مكوّناتها وتوقيع إتفاقات منفردة مع إسرائيل. إدخال لبنان بكلّ ما كان يمثّله من دور طليعي في العالم العربي كان الهدف، فليس اندلاع الحرب اللبنانية في نيسان 1975 وتوسّع رقعتها من قُبيل المصادفة، وليس تدخّل الجيش السوري منذ 20 كانون الثاني 1976 في مجريات الميدان لإسقاط المخيمات الفلسطينية، واعتراف الخارجية الأميركية بهذا التدخل بعد أيام قليلة، وإعلان الرئيس حافظ الأسد بعد ذلك في 20 تموز من مدرج جامعة دمشق أنّ دخول القوات السورية إلى لبنان كان دون طلب الإذن من أحد من قبيل المغامرات غير المحسوبة. وليس الإنتخاب المبكر للرئيس الياس سركيس في أيار 1976 مدعوماً من الولايات المتّحدة وشاكراً لسوريا على تأييدها له، وأداؤه القسم في بارك أوتيل شتورا واغتيال كمال جنبلاط في آذار 1977 سوى استكمال لمسار إحتواء لبنان.

 

وتزامناً مع المشهد اللبناني كانت تعبيرات المشهد الإقليمي الأوسع لتستكمل مسيرة الإحتواء على مستوى المنطقة، فكانت زيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل في تشرين الثاني 1977، والإعلان عن إتّفاقية كامب دايفيد في أيلول 1987 في المنتجع الذي حمل إسمها والتي وُقّعت في آذار 1979 لتوجّه بعدها الإدارة الأميركية دعوة للبنان للإنضمام إلى كامب دايفيد، وليدعو وزير الخارجية الاميركي ألكسندر هيغ في نيسان 1981 إلى قيام شرق أوسط جديد. وبهذا يمكن فهم ما نُسب لهنري كيسنجر أنّه «تقرّر تمديد الحرب اللبنانية إلى حين الانتهاء من عقد اتّفاقية كامب دايفيد للسلام بين مصر وإسرائيل» (سليم نصّار، النهار 20/11/2010). واستكمل إجتياح إسرائيل في العام 1982 وإخراج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان واندلاع حرب المخيمات في العام 1985 وما تلى ذلك من مؤتمرات في الدار البيضاء وتوقيع الإتّفاق الثلاثي مساراً مدروساً أفضى إلى إتّفاق الطائف الذي ترجم رغبة المجتمع الدولي بالحفاظ على وحدة لبنان ونموذجه وقدم للبنان خيارات ومسوّغات لبقائه بعيداً عن دور إقليمي لم يعد مطلوباً.

 

يُمعن أصحاب القرار في السير بلبنان بعيداً عن ما يتّسق مع المشهد الإقليمي ومع تقاطع المصالح الدولية والإقليمية. كما لا يبدو من السهل تلمّس العناصر الموجبة لقيام تسوية إقليمية جديدة أو تقدير عناوين المرحلة المرتقبة في ظلّ دخول المكوّنات الإقليمية في تحالفات غير مرتقبة، ليس أقلها تأثير إتّفاقات التطبيع بين العرب وإسرائيل على ميزان القوى الإقليمي أو إنطلاق المحادثات الإيرانية السعودية. إنّ توّهم القدرة على التأثير في المشهد الإقليمي ليس سوى استمرار في المغامرة باستقرار لبنان وهو لن يُفضي سوى إلى انتظار مهين على قارعة  تسويات لم يحن موعدها بعد.

 

العميد الركن خالد حمادة

 

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات