اليوم تنتهي ولاية الرئيس ميشال عون لتبدأ بعدها مرحلة الشغور الرئاسي الرابع في تاريخ لبنان، والتي من المتوقع ان تختزن أحداثاً وتفاهمات كبيرة تؤدي لفتح الباب امام وصول رئيس جديد للجمهورية، وتدشين حقبة جديدة من تاريخ لبنان.
ولعلّ الدلالة الأبرز على الاهتمام الدولي بالملف اللبناني ما حصل على مستوى ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل. بالتأكيد لا يمكن وصف ما حصل بالتطبيع، ولا حتى ببداية مشوار التطبيع، لكنه بالتأكيد ايضاً لم يكن اتفاقاً تقنياً صرفاً.
لا شك أنّ هذا الاتفاق خضع للمعادلات الاقليمية الجاري صياغتها من جديد. فثمة رسائل كبيرة مُرّرت عبر صندوق البريد البحري اللبناني، وابرزها بأنّ المنطقة «أُخرجت» من ميدان القتال والحروب، اقلّه طالما هنالك غاز يجري استخراجه.
صحيح انّ السلطة اللبنانية هي التي تولّت مهمة التفاوض والتواصل والتوقيع. لكن من البديهي القول بأنّ الطرف الحقيقي الذي أمسك بالناصية اللبنانية كان «حزب الله». وبالتالي، من السذاجة حصر هذا الاتفاق في الاطار اللبناني – التقني البحت، كونه يحاكي خطوط التماس الاقليمية الأشدّ خطورة والاكثر حساسية، والتي خصّصت لها اسرائيل عشرات المناورات والتدريبات منذ حرب العام 2006.
واستطراداً، فإنّ كثيرين شعروا «بطيف» ايران خلال مراحل إنجاز الاتفاق، وهذا ما استدعى السؤال التالي: هل فعلاً تمّت التسوية الاقليمية وبوشر تطبيق بنودها بدءاً من لبنان والعراق؟ ذلك انّ تطورات إيجابية حصلت على المستوى العراقي وتزامنت مع ملف الترسيم البحري.
اوساط ديبلوماسية مطلعة لا تذهب في تفسيرها إلى هذا الحدّ. هي تقرّ بأنّ ايران ارسلت عبر البريد اللبناني رسالة واضحة ومهمّة جداً بأنّها جاهزة لفتح الطريق امام تسويات مستقبلية، ولكن من المبكر بعض الشيء الحديث عن تسويات حصلت. ما يحصل هو تمهيد لإعادة هندسة المرحلة المقبلة. ووفق هذه الاوساط، فإنّ العراق قد يكون استفاد ايجاباً من هذا المناخ المؤاتي، لكن الاتفاق الذي نشأ في العراق وأنتج ولادة للحكومة لا يبدو ثابتاً ومتيناً وقد لا يصمد كثيراً مع مرور الزمن. والأكثر منطقية التدقيق في ارتفاع كمية تصدير ايران لنفطها في السوق السوداء خلال المرحلة الاخيرة.
في الواقع، تأذّت مداخيل ايران في السوق السوداء بعدما اضطرت روسيا لمنافسة النفط الايراني بسبب العقوبات التي فُرضت على موسكو. وفي الوقت نفسه أظهرت الوقائع انّ شرائح عدة في المجتمع الايراني، لا سيما شريحة الشباب، تعبت من الواقع الاقتصادي الصعب في البلاد. صحيح انّ الاحتجاجات التي حصلت قامت بفعل اسباب اخرى، لكن الضائقة الاقتصادية ترفع منسوب التذمر والاحتجاج.
ومن سخرية الظروف ايضاً، فإنّ انجاز الترسيم البحري بين لبنان واسرائيل، يفتح الباب امام تنويع اوروبا لمصادر الغاز من الحقول الاسرائيلية ومن ثم اللبنانية، على حساب مصلحة روسيا. وهو ما يثبت مرة اضافية بأنّ التحالف الروسي – الايراني ليس كاملاً بل تفرضه تقاطعات جزئية.
أضف إلى ذلك، ضغط اوروبا وخصوصاً روسيا على الادارة الاميركية للدخول في مشروع إقفال الحرب في اوكرانيا، بسبب التعب الذي اصاب اقتصادات اوروبا وخصوصاً الاقتصاد الروسي. وبالتالي فإنّ الاستنتاجات تؤشر الى انّ مرحلة إنجاز التسويات الاقليمية الكبرى لم تحن بعد.
فعندما تتهم طهران رسمياً الولايات المتحدة واسرائيل وبريطانيا والسعودية في الاحتجاجات، فهذا يعني شيئاً، خصوصاً على المستوى السعودي. ذلك انّ اتهام واشنطن ولندن وتل ابيب مسألة اعتيادية، لكن إدراج السعودية فهذا يعني انّ التوتر سيعود سريعاً إلى العلاقة بين البلدين، خصوصاً بعدما ظهر أخيراً بأنّ المفاوضات بينهما باتت شكلية ومن دون محتوى حقيقي.
وفي المقابل، فإنّ اوروبا القلقة تضغط ايضاً للتعجيل في الاتفاق مع ايران بهدف فتح ابواب الاستثمار لإعادة إنعاش الاقتصاد الاوروبي المتعب. فاليمين المتطرف الذي يصعد بقوة للامساك بالسلطة في البلدان الاوروبية، يرتكز بشكل اساسي على الركود الاقتصادي الناجم عن الحرب الاوكرانية وقبلها جائحة كورونا. كل هذه الخلفية المتشابكة والمعقّدة لا بدّ من قراءتها بتأنٍ في مرحلة البحث عن خلفيات قرارالترسيم، او بالأحرى قرار تثبيت هدنة عسكرية طويلة بين لبنان واسرائيل.
واستطراداً، فإنّ الصفقة المنتظرة والموعودة لم تحصل بعد، بل هي المقدمة قد أُنجزت قبل التوغل في البحث في النصوص والبنود الأساسية.
تكفي الاشارة على سبيل المثال إلى نية وزارة الدفاع الاميركية زيادة عديد عناصرها في شمال شرق سوريا، لقطع الطريق على ايران الساعية لملء الفراغ العسكري الروسي الجزئي الحاصل. وبالتالي، فإنّ ما ينتظر الشرق الاوسط هو المزيد من المواجهات كممر إلزامي لإنجاز التسويات. فالعراق مؤهّل لاستعادة توتره واضطراباته من جديد، والعلاقات الايرانية – السعودية مرشحة لاستعادة جوانبها الحامية، والتسابق في الساحة السورية على تعزيز المواقع والتقاط الاوراق ستزداد وتيرته السريعة.
والسؤال هنا، كيفية المحافظة على قرار «التبريد» في لبنان، وإزالة خطوط التماس الاقليمية كافة من على ساحته؟
خلال زيارته إلى الفاتيكان التقى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون البابا فرنسيس، وجرى استحضار الملف اللبناني خلال اللقاء، رغم زحمة الملفات الشائكة والخطيرة التي تعصف بأوروبا. لكن اللقاء «التفصيلي» حصل بين ماكرون وأمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين، حيث حاز الملف اللبناني على مساحة بحث واسعة. ووفق الاوساط الديبلوماسية المطلعة، فإنّ الرئيس الفرنسي شرح اسباب فشل المبادرة التي قادها في لبنان من خلال نقاط ثلاث: الاولى، بأنّه قد يكون استعجل وحرق المراحل المطلوبة، لاعتقاده بأنّ الأحداث المأساوية الحاصلة انضجت الظروف المطلوبة.
والثانية، بأنّ الاجواء الدولية مع ايران لم تكن قد وصلت الى المرحلة المساعدة للدفع باتجاه إرساء الحلول.
والثالثة، بأنّ اطراف الطبقة السياسية والتي تتقاتل وتتصارع في ما بينها، تفاهمت مع بعضها لإفشال المبادرة الفرنسية. الّا انّ ماكرون أنهى عرضه بتأكيده بأنّه لن يستسلم وسيستمر في مسعاه لإنتاج حل في لبنان، وانّ المفاعيل السياسية الناتجة من اتفاق الترسيم البحري، ستشكّل دفعاً جيدا ومساعداً في هذا الاطار.
وفي الوقت الذي اكّدت فيه الاوساط الديبلوماسية نفسها بأنّه لم يجرِ التطرق الى أي تسميات «رئاسية»، الّا انّ الواضح انّ الرئيس الفرنسي يعوّل على الدفع الاميركي المطلوب لتأمين ظروف التسوية في لبنان، وهو الذي سيلتقي بايدن بعد شهر من الآن. والمنطقي ان يكون «حزب الله» طرفاً اساسياً في التسوية، خصوصاً انّ «رسالة» الترسيم البحري فتحت الدرب في هذا الاتجاه.
ربما على ادارة بايدن انتظار اتضاح الخارطة السياسية داخل بلاده بعد الانتخابات النصفية. فإذا كان التبدّل في التوازنات داخل الكونغرس بسيطاً ومعقولاً، فهذا يؤشر ربما إلى فتح ابواب التفاوض مع بداية العام 2023، اما اذا جاء التبدّل كبيراً، فلا بدّ من إعادة تقييم جديدة.
لكن لا بدّ من التنبّه حول الاوهام الموجودة لدى البعض، بأنّ اتفاق الترسيم يمنحه حماية تسمح له بالشغب لاحقاً، وهو ما يستشف من بعض مواقفه. في الواقع فإنّ الشروع في هذا السلوك سيكون خاطئاً، خصوصاً انّ السياسة الاميركية أثبتت انّها تعمل على القطعة ولا تلحظ المفاعيل الرجعية، وهو ما يعني انّ سياسة العقوبات قابلة للعودة بقوة في العام 2023، اذا ما سعى احد للشغب بهدف تأمين مصالحه.
وفي ظلّ انشغال اللبنانيين بالتطورات اللبنانيّة المتسارعة لم يتنبّه أحد لأمر هام جدا حصل في الأردن، وقد يتكرر في لبنان لاحقا.
فالأردن الذي يمرّ بأزمة اقتصاديّة خانقة وخطيرة شهد تعديلا وزاريا لتحسين أداء الحكومة. واللافت في الأمر، أنّ هذا التعديل، حصل في ظلّ إصلاحات اقتصادية بتوجيه من صندوق النقد الدوليّ ولم يكن للأردن خيار غير الاستجابة بتوصيات الصندوق بعد الفشل في تأمين مساعدات بديلة.
الاستنتاج واضح وهو ما قد يحصل مستقبلاً في لبنان.